ولما كان علم الله تعالى محيطاً علم أي الألفاظ يبدأ بها، وأيها يثني بها، وأيها يثلث بها حتى جاء النظم القرآني في المرتبة التي يعجز عنها البشر.وبدأت الفكرة تتسع شيئاً فشيئاً فقيل [إن القرآن الكريم لو تركت منه لفظة ثم أدير اللسان العربي على لفظه أحسن منها لما وجدنا.] [63] لقد ظل هذا القول يتسع حتى عقدت موازنات بين ألفاظ القرآن الكريم وألفاظ الشعراء والحكماء، وكيف يوظف القرآن اللفظة في مكانها التوظيف الأمثل وكيف ينتقي التركيب الأعلى في الإيجاز والدلالة، مثل قوله سبحانه (القصاص حياة) وقول العرب (القتل أنفي للقتل).
وهكذا اتسعت دائرة البلاغة شيئاً فشيئاً حتى استحال على القائلين بالإعجاز تجاهلها أو التغاضي عنها، أو تقديم شيء عليها وأنا لا أختلف مع كل ذلك لكني أبحث عن موطن التحدي.
وأمر آخر وهو أن علماءنا نظروا إلى العرب على أنهم أهل التحدي وحدهم فما دام القرآن عربياً ونزل على العرب فالمعجزة عربية، وبخاصة أن القوم أرباب فصاحة وبلاغة 000
وأسأل أيضاً هنا وأقول: إن الإنجيل نزل بلغة بني إسرائيل وقتها فلم لم تكن معجزة عيسى في اللغة، وإذا اتفقت معك على أنهم قوم لم يشتهروا بالفصاحة بل بالطب فهل اقتصرت معجزة عيسى على الطب، ألم يقل (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: من الآية49)
ألم يُنزل عليهم مائدة من السماء بدعائه؟
ألم يخلق طيراً بإذن الله؟
فهل كل هذا له علاقة بالطب؟!
إن القول بأن المعجزة من جنس ما برع فيه القوم يحتاج إلى وقفة، وهذا يعني أن ربط معجزة القرآن بفصاحة العرب وبلاغتهم وأن التحدي في ذلك يحتاج أيضاً إلى وقفة.
ثم أن المعلوم بجلاء أن اللغة وسيلة وليست غاية، وأداة وليست هدفاً 0
نعم: نزل القرآن بلغة العرب.
راجع هذه الجملة:نزل القرآن بلغة العرب. إذن هناك قرآن، وهو كلام الله تعالى. وهذا القرآن الذي هو كلام الله تعالى: نزل بلغة العرب.
وعند التحدي نطلب كلام الله، وليس لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
إن سحرة موسى حين جاؤا بسحرهم جاؤا بالشكل والهيئة فسحروا أعين الناس حتى خاف موسى عليه السلام.
ولكن أفعالهم كانت هيئات وليست حقائق، كانت أشكالاً مثل لغة القرآن، ولم تكن حقائق مثل القرآن، وحين ألقي موسى عصاه انقلبت حية حقيقية، ومن هنا كان التحدي في الحقائق وليس في الأشكال والمطلوب من الناس الآن أن يأتوا بالقرآن وليس لغة القرآن.
ولو كان التحدي في الهيئة والشكل لقال سحرة فرعون لقد جئنا بمثل ما جاء به موسى، فهل قالوا هذا؟
ومن هنا أقول: إن التحدي ليس في البلاغة والفصاحة وإن كنت لا أنكر أن القرآن الكريم يقف في الغاية القصوى التي لا يطمح إليها بشر.
وما أثر عن العرب في حديثهم عن القرآن حيث يتخذ دليلاً على أن التحدي في البلاغة فإنه يحتاج إلى قراءة أخرى وهاك بعض الأمثلة:
نقل القرطبي ـ رحمه الله ـ[أن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه ... (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90) قال اتبعوا ابن أخي فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق.
وقال عكرمة:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة، إن الله يأمر بالعدل والإحسان ... إلى آخرها فقال: يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه فقال والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر.] [64]
ففي موقف أبي طالب كان الانبهار ودعوة الناس إلى الإيمان بسبب ما في القرآن من خير دعوة إلى مكارم الأخلاق.
أما كلام الوليد فوصف للمعنى وليس وصفاً للفظ، فالحلاوة والطلاوة والإثمار والإيراق كل ذلك وصف للمعاني كما قال الإمام [إنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعني] [65]
¥