والآية التي وصفها الوليد فيها من المعاني ما يستولي على العقول حيث أوجبت العدل والإحسان وصلة الرحم و النهي عن كل منكر ...
كل ذلك معانٍ تأخذ بالقلوب قبل الأسماع، ووضعت هذه المعاني في صورة تقابلية تجمع بين الأمر بالخير والنهي عن الشر في إطار واحد، ولا يتأتى هذا إلا مِن إله يريد للناس الخير ولذلك ختم الوليد مقولته بأن قال: (وما هو بقول بشر).
وذاك بيت القصيد: (ما هو بقول بشر).
وحين تراجع قول النجاشي حين سمع القرآن الكريم ورويت له قصة عيسى عليه السلام وأمه الصديقة قال:
(هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة] [66]
إنه علق على المصدر الذي جاء منه القرآن والذي جاء منه كتاب موسى إنه من عند الله.
هذا ما جذبه وجعله يؤمن بهذا الكلام.
وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ روايات، منها رواية لعطاء ومجاهد نقلها ابن اسحق عن عبد الله بن أبي نجيح وفيها أن عمر قال: (كنت للإسلام مباعداً وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحداً، فقلت: لو أنني جئت فلاناً الخمار، وخرجت فجئته فلم أجده، قلت: لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعاً أو سبعين فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين، الركن اليماني والركن الأسود، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، وقام بنفسي أنني دنوت منه أسمع لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام] [67]
فهذا الحديث حديث تأثر ورقة القلب حين سماع القرآن، ولا مجال هنا لبلاغة أو بيان أو نحو ذلك.
ومن خلال تلك الروايات يمكن القول بأن القوم حين استمعوا إلى القرآن الكريم كان رد فعلهم يدور في فلكين:
الأول: تأثرهم بهذا القرآن.
الآخر: إجماعهم على أنه ليس بكلام بشر.
[فقعود الكفار عن المعارضة كان بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن الكريم] [68]
(ولكن ما السبب في قعودهم؟)
السبب أن [للقرآن شأناً آخر وهو: أنهم رأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحاً من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته.
وفي الحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلامي ربي.] [69]
فتأمل هذه الكلمة الموجزة عن القرآن (كلام ربي).
وهكذا آمن الناس لأنهم سمعوا كلام الله فاستقبلوه استقبال الشفاء والهداية النازلة من السماء، ولم يدر بخلد واحد منهم أن يعارض ليس لما رأي فيه من البلاغة (وهي فوق الطاقة كما أعتقد)، ولكن لأنه مهما قال فسيقول كلام البشر ولغة البشر وأين كلام البشر من كلام خالق البشر؟!
إن العربي بطبعه، بل إن النفس البشرية بطبعها إذا طلب منها التحدي في أمر من الأمور خاضت فيه، وبخاصة إذا كان عندها شيء من أولياته فلو طلبنا مثلاً من رجل لا يعرف معنى الشعر، ولم يقرأ كتاباً في اللغة، لو طلبنا منه أن يأتي بقصيدة مثل قصائد المتنبي لحاول وخاض، ولأتي بألفاظ لها من الهيئة والتركيب ما لقصيدة المتنبي من الهيئة والتركيب أو قال كلاماً وادعي أنه مثل ما قال المتنبي.
لماذا؟
لأنه بشر والمتنبي بشر.
ومهما بلغ المتنبي من الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة فهو بشر فالتحدي ممكن وله مسوغاته.
أما أن يقال لبشر يستطيع أن يقف النهار كله يخطب الخطبة ولا يعيد فيها شيئاً كما أثر عن قس بن ساعده الأيادي، أو يقال لهؤلاء جميعاً إيتونا بسورة مكونة من سطر واحد فيسكتون، ويمسكون، ويحجمون، فإن سكوتهم ليس ناشئاً عن عجز من قبل الكلام، وإن كان الكلام خارجاً عن طوقهم، بل من يقينهم بأن هذا الكلام كلام الله ونحن نريد كلاماً من عند الله وليس من عندكم.
والسؤال:
لنفترض ـ جدلاً ـ أن هذا الكلام قال به بشر، وأن القرآن كلام بشر ـ أقول لنفترض ـ ثم تحدي به الناس، هل كانوا سيقعدون عنه؟
راجع نفسك وستعلم أن قعودهم عن التحدي إنما كان لأنه كلام الله.
¥