ما المقصود بالبلاغة في كلامهم؟
ما المقصود بالبلاغة التي تحدي بها القرآن الناس؟
إن البلاغة والإعجاز البلاغي، مصطلح لم يتفق عليه أهل البلاغة، فلقد ذكروا كلاماً كثيراً قد نتفق معه حيناً وقد نختلف معه أحياناً أخرى، لكن الذي لا شك فيه أنه لم يكن كلاماً واحداً، ولا مضموناً واحداً.
فهناك من يرى البلاغة في نظم الحروف وتتابعها كما يقول الباقلاني:
(الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها، ولم يتحداهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.] [70]
ثم يقول: [فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها.] [71]
فنظم الحروف هنا هو البلاغة، وهو مناط التحدي، وهذا ما أنكره الإمام عبد القاهر بل عقد له فصلاً قال فيه:
[وما يجب إحكامه الفرق بين قولنا: حروف منظومة، وكلم منظوم، وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضٍ عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسماً من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه، فلو أن واضع اللغة كان قد كقال (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساده.] [72]
ومن هنا سقط القول القائل بأن البلاغة هي نظم الحروف وأن الإعجاز في نظم تلك الحروف.
وفي جانب آخر جعلت البلاغة مخصوصة باللفظ والمعني، ففصاحة الألفاظ وشرف المعاني هي موطن الإعجاز، وحديث علمائنا عن اللفظ والمعني يكاد يكون تلخيصاً لقضية النظم والتأليف عندهم، فالنظم أمر متعلق باللفظ والمعنى معاً، وإن كنت تلمح في كلام البعض إعلاءً لشأن اللفظ، وللبعض الآخر إعلاءً لشأن المعنى.
ففي كلام ابن عطية مثلاً أن الصحيح في وجه الإعجاز هو [النظم وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله تعالى أحاط بكل شيء وأحاط بالكلام كله علماً فترتيب الألفاظ من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ...
فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ... والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها فيغير فيها. وهلم جراً.
وكتاب الله عز وجل لو نزعت منه لفظ ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد.] [73]
[فالقرآن جاء بالأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على الخصائص العليا التي لم تجتمع بل لم توجد في كلام آخر مما أعجز أساطين الفصحاء ومقاويل البلغاء وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان.] [74]
فهؤلاء جميعاً جنحوا بالنظم إلى جهة اللفظ، وأخذ بعضهم يوازن بين بعض التراكيب في لغة العرب ولغة القرآن الكريم، كما في نحو (القصاص حياة) و (القتل أنفي للقتل) [75] بل بين لغة النبي صلى الله عليه وسلم ولغة القرآن الكريم مثل وصف الجنة في كلامه صلى الله عليه وسلم، ووصفها في كلام الله تعالى، ففي القرآن قيل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة: من الآية17) وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) [76]
ومع أن الحديث حديث قدسي إلا أن لفظه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن هنا كانت الموازنة بين لغة البشر ولغة القرآن الكريم.
وعليه فإن الإعجاز هنا يبرز فيه دور الألفاظ أكثر مما يبرز دور المعاني، لأن المعنى في القرآن الكريم وفي الحديث القدسي من الله تعالى فالموازنة إذاً في اللفظ 0
وترى طائفة أخرى من العلماء عكس هذا، حيث يرون المعنى أعلى قامة من اللفظ كما صنع عبد القاهر الجرجاني ـ رحمه الله ـ فهو لا يبخس حق اللفظ ولا يطرحه اطراحاً ولكنه حامل للمعنى، ورسول له، وهذا ما استخلصه أستاذنا أبو موسى بعد مصاحبة طويلة للإمام عبد القاهر حيث خلص إلى أن:
[الإعجاز قائم بالمعاني وأنه الأقوى والأظهر، وأن القرآن الكريم حين قال: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [77] (هود: من الآية13)
¥