فالمعني هو المحور، وهو العمود، وهو الأصل، وهو الذي ضاع منا درسه وصعب علينا الخوض فيه، وعاشت البلاغة، وعاش النحو، وعاشت علوم العربية كلها وعشنا معها ندور حول اللغة، حول الكلمات، وتدور بنا اللغة، وتدور بنا الكلمات، حتى أتعبتنا اللغة وأتعبناها، لأننا نحركها في الهواء ولم نحركها على ينابيع المعاني، التي هي منابعها ..
هذه المعاني ... هي المقصود الأسمى، والمطلب الأرفع، والماء الكوثر الذي إذا تقاطر في قلب ظل تائقاً إليه.
لقد تركنا هذا الذي سماه العلماء ودائع العقول وثمر القلوب وشغلتنا عنه العبارة عنه ... فصرنا نتكلم في العبارة عن المعنى، والمعنى غائب ... !!!
ليست القيمة في ألفاظ اللغة وإن كانت معجونة بالسحر، وإنما قيمتها حين تفرى عن وجه المعنى الحر.] [81]
وهكذا يلخص أستاذنا وجهة نظر الإمام في أن الإعجاز إعجاز في المعنى ..
وبعد هذا الفهم لمضمون النظم وغايته ومقصود البلاغة وعمودها ألا ترى معي أننا رجعنا إلى أول الطريق بعد أن ظننا أننا خطونا خطوات، لأن القول بأن الإعجاز في النظم، والنظم هو نظم المعاني يسلمنا إلى بحر زاخر فالحديث عن المعنى القرآني هو حديث عن كل شيء، فما المعنى القرآني الذي تحداهم فيه وطلب منهم المجيء بمثله؟
لا زال العقل يسير في مبهمات، وهذا الأمر الذي يخيل إليك تارة أنه واضح وضوح الشمس ما تلبث إلا أن تراه خافياً خفاء الروح، أقول هذا الأمر دفع طائفة من العلماء إلى مزج بعض الوجوه هي إلى الإحكام أقرب و إلى الضبط أميل مثل حديث القرآن عن الغيب، وعن العلوم وأثره في قلوب السامعين .. الخ
وهذه الأمور إذا طلب من أي إنسان أن يتحدث فيها وجدها بين يديه بارزة شامخة لكل ناظر.
ولكن سيطرة كلام السابقين عن الإعجاز النظمي جعل البعض يحاول أن يخرج من هذه الدائرة (دائرة اللفظ والمعنى) ومن هنا جاء الحديث عن أن البلاغة هي جميع ما سبق من نظم وصحة معاني وتوالي فصاحته كما قال ابن عطية [82] وهذا يعني أن الوقوف على الحروف أو الألفاظ أو المعاني لم يلق قبولاً من جميع العلماء فراحوا يطلقون الإعجاز على كل ما يتعلق باللغة من نظم ولفظ ومعنى واستمرار ذلك ودوامه من أول القرآن إلى آخره، يقول حازم القرطاجني:
[يتوجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها استمراراً لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العربي ومن يتكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود.] [83]
والعجيب هنا أن نجعل كثرة هذه النكات وتتابعها هو مقياس التفاضل عند العرب وأن البلغاء من العرب كانوا يتفاضلون بكثرة هذه النكات البلاغية وكأن من يأتي منها بأكبر عدد هو الأبلغ وهو الأعلى قدراً بين الآخرين ..
واسمع إلى العلامة ابن عاشور وهو يقول: [إن بلغاء العرب كان تنافسهم في وفرة إبداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطن لها ما لم يجد من قدرته قبلاً بمثله.
وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان فعلم ألا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله.
هذا كله بسبب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه
ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد.
وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إياهم بمعارضة القرآن، وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم على مالاح من تلك الخصائص: وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا، أو اجتمعوا، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين، فقال تارة: (فأتوا بسورة من مثله) وقال لهم مرة (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ... )
فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولاً عنها بينهم ضرورة أنهم مُتَحَدون بها، وهذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر سورة منه.] [84]
أرأيت؟
¥