إن القضية ـ كما يراها ابن عاشور ـ هي كثرة النكات إلى الحد الذي فاق طاقات العرب، فوقفوا عاجزين حتى وإن استعانوا بأهل الفصاحة جميعاً.
وهذا أمر لا أميل إليه لأنه يدخلنا في دائرة الكثرة والقلة، مما يجعلنا ننشغل عن القرآن بعدد ما فيه من وجوه البلاغة.
وعلى جانب آخر يرى فريق من العلماء أن الإعجاز يكمن في أن القرآن جاء بشيء غريب غير معهود، والعجيب أن دليلهم في ذلك هو قول عتبة حين سمع القرآن الكريم أنه ما سمع بمثله .. وقالوا:
[إذا اعترف عتبة، على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط، كان في هذا القول مقراً بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعها.] [85]
[وأجناس الكلام التي تكلمت بها العرب خمسة:
1 - المنثور الذي تستعمله العرب في محاورة بعضهم بعضا.
2 - الشعر الموزون.
3 - الخطب.
4 - الرسائل.
5 - السجع.
ونظم كلام القرآن مباين لهذه الأوجه الخمسة مباينة لا تخفي علي من يسمعه من عربي فصيح أو ذي معرفة بلسان العرب من غيرهم حتى إذا سمعه لم يلبث أن يشهد بمخالفته لسائر هذه الأنواع من الكلام.
والحجة إنما قامت على قريش وسائر العرب بوقوفهم على ذلك من أمره وأن هذا الفرق بينه وبين سائر الكلام هو موضع الحجة، وبذلك صار معجزاً للخلق وقائماً مقام الحجج التي بعث الله بها رسله واحتج بها على الناس مثل فلق البحر وإحياء الموتى.] [86]
ولكن ما معنى أنه غير معهود؟ وفي أي شيء لم يعهد؟
إن [المستقر في أذهان الناس أن ألفاظ القرآن ومعانيه إنما هي تجرى على نفس النمط الذي تجري عليه ألفاظ العرب ومعانيهم] [87]
لقد قالوا إنه [النظم والأسلوب والجزالة فهي لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز.] [88]
ودعني اتفق هنا مع هذه المقولة.
نعم: نظم القرآن غير معهود، فهل هذا يعني أنه وقع التحدي به؟ وهل يعني هذا أن كل ما جاء بنظم غير معهود، وأسلوب غير معهود يكون معجزاً؟
وهل يمكن أن نطلق على الشعر الحر مثلاً، أو الشعر النثري أو الشعر الحداثي أو ما يقرب من هذا النمط، هل يمكن أن نقول إنه معجز؟
إنه نظم غير معهود وأسلوب غير معهود، وما قال أحد من الناس إنه معجز 0
إذن هذه القضية لا تقف على رجلين، وأما كلام القرطبي فإنه كان يعدد وجوه الإعجاز ولم يقتصر على هذا الوجه، وراجع كلامه ستجد أنه ضم إلى ذلك الإخبار عن الغيب، والحكم البالغة، والتناسب في جميع ما تضمنه ... الخ.
إننا حين نضع القرآن الكريم بجوار الكلام العالي عند الحكماء والشعراء نجد القرآن الكريم قد بلغ أعلى منازل البيان، وسما إلى أعلى مراتبه لما جمع من وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه.
إن هناك بيان ولكن القرآن أعلاه وأحسنه.
وحين يتسابق فرسان ويسبق أحدها الآخر، ويتفوق عليه لا نقول إنه أعجزه، ولكنه سبق فقط، سبق في كل شيء، في [الفواتح والخواتم والمبادئ والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل، ثم في نظم السور والآيات، ثم في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل ثم الكلام الموشح والمرصع والمفصل والمصرع والمجنس والموشح، والمحلى والمكلل والمطوف والمتوج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه ...
ثم الخروج من فصل إلى فصل، ووصل إلى وصل، ومعنى إلى معنىً، ومعنى في معنىً، والبسط والقبض، والبناء والنقض، والاختصار والشرح ... وكل ذلك دال على أنه يصور عن عزة الملكوت وشرف الجبروت.] [89]
إن علماءنا وهم يتحدثون عن آيات التحدي راحوا يتحدثون عن صفات القرآن وجمال أسلوبه.
وأنا أسأل: ما علاقة هذه الأوصاف بما نحن فيه؟
لقد حدث خلط شديد بين بلاغة القرآن الكريم وتحدى القرآن الكريم للناس0
إن بلاغة القرآن وعلو منزلته أمر لا يختلف عليه أحد من ا لمنصفين ولو أن البلاغة هي موطن التحدي لما وجدت هذا الخلاف بين العلماء من المراد منها.
وفي جانب ثالث ذهب البعض إلى أن بلاغة القرآن وإعجازه تعرف ولا تدرك بالحواس فجعلوها ضرباً من الأسرار الغائبة التي لا يمكن تحديدها أو وصفها.حتى قيل إن الجاحظ:
¥