ولقد وفد عمرو بن العاص - قبل أن يسلم -على مسيلمة الكذاب فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟
فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟
فقال: والعصر إن الإنسان لفي خسر.
ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال:
ولقد أنزل علىّ مثلها
فقال وما هو؟
فقال: ياوبر ياوبر: إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك صقر فقر 0
ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟!
فقال له عمرو: والله إنك لتعلم إني لأعلم أنك تكذب) [94]
فعمرو بن العاص لم ينظر في الكلام ولم يتطرق إليه، إنما كذبه في جملة واحدة وهي " لقد أنزل على"
فمعارضه مسيلمة في الوحي وليس في الكلام.
ولو أن مسيلمة قال ما قال ثم لم يزعم أنه أوحى إليه لما التفت إليه أحد.
ومن هنا فإن دلالة المثلية هي دلالة وحى، وحين يقول القرآن ا لكريم " فأتوا بسورة من مثله " يعنى كما أفهم فأتوا بسورة من عند الله.
فلا ينبغي الالتفات إلى معارضات الناس ليس لأن كلامهم ناقص عن حد البلاغة وإنما لأن كلامهم ليس من عند الله.
نعم كل ما في القرآن الكريم معجز بمعنى أنه بلغ المنتهى في بابه لكن التحدي في أن يأتوا بسورة من عند الله.
ودعنى أعود إلى كلام الله تعالى لأثبت لك ما ذهبت إليه.
أولاً: تعددت الآيات وتكاثرت لإثبات أن القرآن منزل من عند الله وصاحَبَ ذلك نفي الريب عنه أعنى عن الإنزال وهاك أمثله:
في أول البقرة قيل "لا ريب فيه " ثم قيل "والذين يؤمنون بما أنزل إليك ". في آية التحدي في البقرة قيل " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ... " في سورة يونس قيل " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله " ثم قيل " لا ريب فيه من رب العالمين " 37 وفي سورة العنكبوت قيل " وقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم ثم قيل "وما كنت تتلوا من قبل من كتاب ولا تخطه بيمنك إذا لارتاب المبطلون ... " 48 وفي سورة السجدة قيل " تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين "
فالشك والريب لم يكن في القرآن على إطلاقه وإنما في قضية أخص وهي أن هذا الكلام من عند الله. ما يعني أن التحدي في هذه الجملة (من عند الله) 0
ثانياً: لا يكاد يُذكر لفظ القرآن أو الكتاب إلا ويذكر معه أنه منزل من عندالله، واسمع لما يلي:
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) .... (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك) (البقرة:2 البقرة: من الآية4)
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية89)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَاب) (البقرة: من الآية174)
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (البقرة: من الآية176)
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَاب) (آل عمران: من الآية7) "
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ (آل عمران: من الآية79)
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا) (النساء: من الآية47)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (النساء: من الآية105) "
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) (الأنعام: من الآية92) "
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ) (القصص: من الآية49)
وهذا غيض من فيض،فالعين الناظرة لا تخطئ هذه الصحبة اللازمة بين ذكر لفظ (الكتاب) وأنه منزل من عند الله وهذا يبين معنى المثلية المقصودة في آيات التحدي.
وإذا كان هذا شاخصاً في لفظ (الكتاب) فإنه أشد وضوحاً في لفظ (القرآن) 0
فحين يذكر لفظ (القرآن) يذكر معه – غالباً - أنه منزل من عند الله وموحاُ به من عنده سبحانه واسمع إلى ذلك:
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِه) (الأنعام: من الآية19)
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: من الآية3)
(طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2)
(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (طه: من الآية114)
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل:6)
¥