قولكم: وهل يظنّ أحد أن العرب وهم من هم في الفصاحة يعجزون عن قول مقدار سورة في حجم سورة الكوثر مثلاً؟
وأنا أسأل: وأنّى لهم ذلك؟ فهل أنت تشكّ في أن العرب عجزوا عن الإتيان بمثلها؟ إذ إن قولك هذا يذكّرنا بمزاعم بعضهم أن مِن العرب مَن عارض القرآن معارضة تبطل التحدّي، غير أن المسلمين أخفوا هذه المعارضات، ولم يستطع أحد من غيرهم أن ينقلها خوفاً منهم.
فهذه بنظرنا قضية خطيرة جداً، وهي باطلة لأمور:
أ – لقد لجأ كفار قريش إلى الحرب، ولو أنهم عارضوه، أو كان بإمكانهم أن يعارضوه، لأبطلوا حُجّته من أيسر طريق. ومن بدائه العقل أن الخصم الذي يستطيع أن يبطل حُجّة خصمه بطريق لا يلحقه منه ضرر لا يلجأ بطبيعة الحال إلى وسيلة يكون الضرر متحقّق فيها. فما الذي دعا كفار قريش وهم أصحاب العقول الراجحة إلى أن يعلنوا الحرب على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، والجميع إخوتهم وأبناؤهم، وهم يعلمون أن هذه الحرب لا بدّ أن تصيبهم وتصيب أهليهم الذين أسلموا بأقدح الأضرار؟ فقد كان حسم القضية يسيراً عليهم، لو أنهم استطاعوا إبطال الدعوة بأي معارضة مقبولة لما جاء به.
ب – لم تجرِ العادة في كتمان مثل هذا الأمر العظيم، وإلا لافترضنا أن أشياء كثيرة حدثت في التاريخ، وكتمها الناس. على أنه نُقل إلينا من أخبار مشركي العرب ما هو دون ذلك من نسبتهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون والسحر والإفتراء، وأنه أتى بأساطير الأولين، ثم نسبته إلى الشعر والكهانة. ولا نشكّ في أن مشركي قريش استطاعوا أن يفرّقوا بين القرآن، وبين الشعر وأسجاع الكهّان.
ج – لو صحّت المعارضة، أو لو صحّ أن العرب كان بمقدورهم الإتيان بسورة مثل سورة الكوثر، لكانت هذه كالحُجّة، وكان القرآن كالشبهة. لأن بالمعارضة يُعلم من حاله أنه ليس بمعجز، وتكون المعارضة من حيث كشفت ذلك من حال القرآن الكريم ودلّت عليه حُجّة. فكان يجب أن تكون بالنقل أولى من القرآن لأن الحاجة في الدين إليها أمسّ، وكما وقعت الحاجة إليها أولاً، فالحاجة إليها ماسّة على الدوام ما دام القرآن منقولاً، فكيف يصحّ والحال هذه أن يُنقل القرآن، ولا تُنقل المعارضة؟
د – لو كان بمقدور مشركي قريش أن يأتوا بمثل سورة الكوثر، لأوجب ذلك اضطراباً في نفوس الذين دخلوا في الإسلام. وقد كانوا – كما ظهر من سيرهم فيما بعد – أصحاب عقول راجحة، وإرادات قويّة. فلا يُتصوّر أنهم داسوا على أنفسهم حين ظهر لهم بطلان الدين الجديد الذي دخلوا فيه. وقد كان بعضهم شديد العداوة له قبل أن يُسلم. فلو وجدوا أي ضعف في الدعوة لعادوا إلى عداوتهم لها. فثبات هؤلاء العقلاء على ما دخلوا فيه دليل على أنهم ما وجدوا فيه غميزة، وما سمعوا من أحد مثل قوله.
هـ – احتججت بنقل المعارضة التي رُويت عن مسيلمة الكذّاب حين أراد أن يأتي بمثل سورة (والعصر)، وعلّقت عليها بأن عمرو بن العاص لم ينظر فيها ولم يتطرّق إليها، إنما كذّبه في جملة واحدة، وهي (لقد أنزل علي). ولكن ما دليلك على ذلك؟ أولم يدرك عمرو بن العاص أن الكلمات التي تقوّل بها هذا الماجن ضعيفة الأسلوب، سخيفة المعنى، وأنها ليست إلا مما تفكّه به الرواة والقصاص في مجالس القصص؟
و – أي سلطان كان للمسلمين وهم في مكة – شرّفها الله – وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثلاثة عشر عاماً، وهي مدّة تكفي لأن تُذاع أيّة معارضة حتى تبلغ أسماع كل من بلغته دعوة الإسلام؟ ولا شك في أن القوم كانوا حريصين كل الحرص على إبطال هذا الدين الجديد. فلو كان منهم ما يبطله لجهدوا في إذاعته، ولوجدوا من الذين يفدون إلى مكة – شرّفها الله – للحج والتجارة مَن يسير بهذه البشرى، وينشرها في كل مكان يمكن أن يبلغ صوته إليه.
ثانياً:
قولكم: القول بالإعجاز الذاتي لا مجال له هنا، ووجه الإعجاز الأول في القرآن هو أنه " كلام الله "
وأنا أسأل: وكيف يمكننا أن نفهم الإعجاز إذا عطّلنا ما في القرآن الكريم من مضامين وأساليب؟
ثالثاً:
قولكم: تعقيباً على سؤالي: هل كان بمقدور العرب أن يأتوا بمثل القرآن لغة؟ قلتم: وهل تحدّى القرآن الكريم العرب وحدهم حتى نسأل هذا السؤال؟
¥