فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم = لا يأتون بمثل هذا القرآن، و لو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن، و عرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة مثله، ومن حين بعث وإلى اليوم، الأمر على ذلك مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث، و لما بعث إنما تبعه قليل، و كان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله مجتهدين بكل طريق يمكن؛ تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين - كما تقدم -.
و تارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه، و صاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما، مع ظهور الفرق؛ فتارة يقولون: مجنون وتارة يقولون: ساحر وتارة يقولون: كاهن وتارة يقولون: شاعر، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون - هم وكل عاقل سمعها - أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة وهي تبطل دعوته، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها؛ فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد - إذا كانت القدرة حاصلة - = وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض.
فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة وبغير حيلة، وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى فإن هذا لم يأت أحد بنظيره)) (الجواب الصحيح 5/ 422 - 428).
و قال في موضع آخر: ((و القرآن معجز بلفظه ونظمه ومعناه، وإعجازه يعلم بطريقين: جملي وتفصيلي.
أما الجملي: فهو أنه قد علم بالتواتر أن محمد × ادعى النبوة، وجاء بهذا القرآن وأن في القرآن آيات التحدي والتعجيز؛ كقوله تعالى ?أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ? فتحداهم هنا أن يأتوا بمثله.
وقال في موضع آخر ?فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات ?، وقال في موضع آخر ?فأتوا بسورة من مثله? وأخبر مع ذلك أنهم لن يفعلوا فقال ?وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداؤكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار? بل أخبر أن جميع الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يأتون بمثله فقال ?قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ?.
وقد علم أيضا بالتواتر أنه دعا قريشا خاصة والعرب عامة، وأن جمهورهم في أول الأمر كذبوه وآذوه وآذوا الصحابة، وقالوا فيه أنواع القول مثل قولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومعلم ومجنون وأمثال ذلك.
وعلم أنهم كانوا يعارضونه، و لم يأتوا بسورة من مثله، وذلك يدل على عجزهم عن معارضته لأن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة. و معلوم أن إرادتهم كانت من أشد الإرادات على تكذيبه وإبطال حجته، و أنهم كانوا أحرص الناس على ذلك حتى قالوا فيه ما يعلم أنه باطل بأدنى نظر، و فيلسوفهم الكبير الوحيد ?فكر وقدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر?.
و ليس هذا موضع ذكر جزئيات القصص؛ إذ المقصود ذكر ما علم بالتواتر من أنهم كانوا من أشد الناس حرصا ورغبةً على إقامة حجة يكذبونه بها حتى كانوا يتعلقون بالنقض مع وجود الفرق؛ فإنه لما نزل ?إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ? عارضوه بالمسيح حتى فرق الله تعالى بينها بقوله ?إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ?وقال تعالى ?ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ?.
فمن عارضوا خبره بمثل هذا؛ كيف لا يدعون معارضة القرآن وهم لا يقدرون على ذلك (1)؟)).
¥