ثم قال: ((ثم انتشرت دعوته في أرض العرب ثم في سائر الأرض إلى هذا الوقت، وآيات التحدي قائمة متلوة، و ما قدر أحد أن يعارضه بما يظن أنه مثل.ولما جاء مسيلمة ونحوه بما أتوا به يزعمون أنهم أتوا بمثله، كان ما أتوا به من المضاحك التي لا تحتاج للمعرفة بانتفاء مماثلها إلى نظر.
وذلك كمن جاء إلى الرجل الفارس الشجاع ذي اللامة التامة فأراد أن يبارزه بصورة مصورة ربطها على الفرس، كقول مسيلمة: يا ضفدع بنت ضفدعين، كم تنقنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين. وقوله أيضا: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل، وأمثال ذلك.
ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر وسألهم أن يقرؤوا له شيئا من قرآن مسيلمة فاستعفوه، فأبى أن يعفيهم حتى قرأوا شيئا من هذا، فقال لهم الصديق: ويحكم، أين يذهب بعقولكم، إن هذا كلام لم يخرج من إِلٍّ، أي: من ربٍّ.
فاستفهم استفهام المنكر عليهم لفرط التباين وعدم الالتباس وظهور الافتراء على هذا الكلام، وأن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمثل هذا الهذيان.
وأما الطرق فكثيرة جدا متنوعة من وجوه، وليس كما يظنه بعض الناس و أن معجزته من جهة صرف الدواعي عن معارضته، وقول بعضهم إنه من جهة فصاحته، وقول بعضهم من جهة إخباره بالغيوب إلى أمثال ذلك، فإن كلاّ من الناظرين قد يرى وجها من وجه الإعجاز، وقد يريد الحجر وإن لم ير غيره ذلك الوجه، واستيعاب الوجوه ليس هو مما يتسع له شرح هذه العقيدة)) (شرح العقيدة الأصفهانية ص 266 - 269).
و سيأتي نقل أقواله الكثيرة في هذا، وبعض تلك النقول في عشرات الصفحات، لولا الإطالة لنقلتها لأهميتها.
قال ابن القيم (1) في تفسير آيات التحدِّي: ((و من ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله وصحة (2) ما جاء به من الكتاب وأنه من عنده وكلامه الذي يتكلم به وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم بقوله: ?وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ? [البقرة23].
فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي نزله على عبده و أنه كلامه = أن يأتي بسورة واحدة مثله، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره، ثم فسح له إن عجز عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانة به من المخلوقين.
وقال تعالى ? أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ? [يونس38].
وقال ?أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ? [هود13].
وقال ?أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين? [الطور34 – 33].
ثم أسجل سبحانه عليهم إسجالا عاما في كل زمان ومكان بعجزهم عن ذلك ولو تظاهر عليه الثقلان فقال ? قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ? [الإسراء88]
فانظر أي موقع يقع من الأسماع والقلوب هذا الحجاج القاطع الجليل الواضح الذي لا يجد طالب الحق ومؤثره ومريده عنه محيدا ولا فوقه مزيدا ولا وراءه غاية، ولا أظهر منه آية ولا أصح منه برهانا ولا أبلغ منه بيانا)).
و قال في كتابه ((بدائع الفوائد)) (2): ((فلما قرر نوعي التوحيد انتقل إلى النبوة، فقال ? وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ? إن حصل لكم ريب في القرآن الكريم وصدق من جاء به وقلتم إنه مفتعل = فأتوا بسورة واحدة تشبهه، وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم.
و من المحال أن يأت واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف، ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك حتى أن الذين راموا معارضته = كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه، فإنهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ويحكمون بسماجته وقبح ركاكته وخسته.
¥