فهو كمن أظهر طيبا لم يشم أحد مثل ريحه قط وتحدى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرة طيب مثله، فاستحى العقلاء وعرفوا عجزهم وجاء الحمقان بعذرة منتنة خبيثة، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئت به، فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانا وعظمة و جلالة.
و أكد تعالى هذا التوبيخ والتقريع والتعجيز بأن قال ?وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ? كما يقول المعجز لمن يدعي مقاومته: اجهد عليَّ بكل مَنْ تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك، ولا تبق منهم أحدا حتى تستعين به.
فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم و أحمقه و أسخفه عقلا؛ إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله، والنبي × يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق أميهم وكتابيهم وعربهم وعجمهم ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدا، فيعدلون معه إلى الحرب والرضى بقتل الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار المحاربة و إيتام الأولاد و قتل النفوس والإقرار بالعجز عن معارضته.
وتقرير النبوة بهذه الآية له وجوه متعددة: هذا أحدها.
وثانيها: إقدامه هذا الأمر و إسجاله على الخلائق إسجالا عاما إلى يوم القيامة أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا، فهذا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى؛ و إلا فعلم البشر وقدرته يضعفان عن ذلك.
وثالثها: النظر إلى نفس ما تحدى به وما اشتمل عليه من الأمور التي تعجز قوى البشر على الإتيان بمثله، الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفراد إعجازه.
وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمله وفهمه، وبالوجهين الأولين يكون معجزة لكل من بلغة خبره، ولو لم يفهمه ولم يتأمله، فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف فيه قصور كثير من المتكلمين وتقصيرهم في بيان إعجازه وأنهم لم يوفوه عشر معشار حقه حتى قَصَر بعضهم الإعجاز على صرف الدواعي عن معارض0ته مع القدرة عليها، وبعضهم قصر الإعجاز على مجرد فصاحته وبلاغته، وبعضهم على مخالفة أسلوب نظمه لأساليب نظم الكلام، وبعضهم على ما اشتمل عليه من الإخبار بالغيوب، إلى غير ذلك من الأقوال القاصرة التي لا تشفي ولا تجدي.
وإعجازه فوق ذلك ووراء ذلك كله)).
ـ[أبو تيمية]ــــــــ[16 May 2005, 07:50 ص]ـ
و بعد هذا البيان من هؤلاء الأئمة، أذكِّر بمسألة غير خفية؛ إلا أن التذكير بها في هذا الموطن مهم – كما سيأتي بيان ذلك في موضعه -، ألا وهي:
على ماذا كان اعتراض قريش؟
الجواب بلا عناء: كان كفار قريش معترضين على صحة دعوى نبوة محمد ×، و أن الذي جاء به هو كلام الله، و كذلك القول في كفار أهل الكتاب.
و الآيات المتقدمة واضحة الدلالة في هذا، فهم يدعون أن محمدا افترى هذا الكلام – وهو القرآن - و تقوَّله، و لهذا خاطبهم الله بالآيات السابقة، و أمر نبيه ×أن يقول لهم ذلك.
ثم أنبه إلى أمر دقيقٍ، قلَّ مَن يتفطن إليه، ألا و هو أنه شاع في تفاسير أهل العلم تفسير الألفاظ ذات المعاني الخاصة بالمعنى الأوسع دلالة منه، كما حصل عكسه من السلف في ذكر بعض أفراد العام دون بعض في اللفظ القرآني العام أو الذي له أكثر من معنى، فيظن من لا خبرة له أن المراد بذلك حصر التفسير في ذلكم المعنى المعيَّن، و هذا كما سبق و أن ذكرنا – فالمراد من تلكم التفسيرات تقريب المعنى.
و لهذا تجد أن ابن القيم في كلامه المنقول قبل، قال: " فأتوا بسورة واحدة تشبهه ".
ففسر المثل بالشبيه.
و قد سبق أن ذكرت أن من العلماء من يفسر المثل بالشبيه و الكفء و العدل و النظير و غيرها، مع علمهم بعدم ترادفها في المعنى.
و المشابهة أوسع دلالة من المماثلة.
فالمماثل مشابه و ليس كل مشابه مماثلا.
و لذلك نفى الله تعالى عن نفسه المثلية و لم ينف المشابهة، فقال سبحانه ? ليس كمثله شيء ?.
مع أن نفي التشبيه المفضي إلى التمثيل = منفي عن الله عز و جل، و لذلك جرى استعمال هذا اللفظ في كلام بعض السلف، و المراد منه تشبيه خاص لا مطلق التشبيه؛ لأن نفي مشابهة شيء لشيء آخر مطلقا = غير واقع، فما من شيئين إلا و بينهما قدر اشتباه.
¥