فأما الصادقون فصدقوا في إخلاصهم لمناصبهم واعتبروها أمانة وراعوها رعاية المشفق، وقد أخذت منهم الجهد والوقت، فإن تجاوزوها لأشغال وأعمال أخرى كانت جهودهم شكلية لضيق أفق وقتهم، ولقلة المعين، الشيء الذي كرس طوق التقليد خلفا لسلف، مما جعل منهم محامين فاشلين أمام قضية عادلة ومنصفة، وكان الأجدر بكل باحث أن يشكل خلية بحث يشرف على جهودها استكمالا لما لا يتم الواجب إلا به، ليضحي شوكة في حلق كل معاند، وسدا منيعا يقطع طمع الطامعين في النيل من الشريعة الغراء، واضعين نصب أعينهم قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. لم يمض عهد مقاتلة الظالمين وإنما تغيرت وسائل سلاحه؛ فالمواجهة أصبحت مواجهة حضارية أضحت فيها الكلمة لقوة الحجة والبرهان، لتخلد العقول للتفكير الرصين، بعيدا عن كل تهييج وخفة وطيش، لا لقوة السيف والسلطان، في بلداننا حيث أصبح السيف وسيلة إرهاب تتسلط به الدولة على المستضعفين، ابتزازا لأموالهم وتسخيرا لرجال القمع في إذلالهم، ولم يعد سيف الدولة وسيلة لدحض الكافرين والنيل منهم ولو كانوا للأرض مستعمرين.
وأما غير الصادقين فتزينوا بالمناصب لهثا وراء سراب الدنيا والجاه والمكانة، ولم يزينوها بزينة الإيمان والمواقف الصادقة التي لا تخشى في الله لومة لائم.
مع العلم بأن التشريع الرباني جاء ليرفع التحدي في وجه كل المخالفين ولكل الأنظمة والقوانين: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]. وتحدى أهل الكتاب بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49] ورفع التحدي للبشرية جمعاء: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
كما بين بأن القرآن جاء مفصلا على علم هدى ورحمة: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]. بل ما جاء القرآن إلا ليرفع عاليا فوق كل تشريع وفوق كل دين: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
وما أرسل رسوله إلا ليظهره على القوانين الوضعية السائدة في كل زمان وأوان: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح: 28].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9].
فهل لنا من رجال أفذاذ يذودون عن الحمى بفقه منهجي علمي رصين، نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة التبليغ؟
ا محمد جابري
ـ[محمد جابري]ــــــــ[25 Nov 2008, 08:07 م]ـ
شكر الله لكل المشاركين نصحهم ومساهمتهم؛
إن كان لي أن أدلي بدلوي في الموضوع فإني لا أرى ما تصوره الإخوة، إذ كان على الباحث في موضوع المثلية أن يبحث عن مواصفات القرآن حتى يمكنه ذلك من المقارنة وجوه المثلية، ولعل ما أصبو إليه وجه وصف القرآن بالروح في قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]
فلو تدبرنا هذه الاية ما كان لنا أن نخوض في كثير من الكلام، فسر القرآن الكريم روحه، ـــ وراجع أقوال المفسرين في الموضوع ــ.
ثم ما كان للآخ الكريم أن يخوض غمار هذا البحث أصلا لو وقف وقفة تدبر مع قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ذلك بكون العهد من الله لا ينخرم، وعهده هنا لم تفعلوا ولن تفعلوا.
فكيف بمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤمن بالكتاب يناقش ما سماه سورة الشجرة؟
ولقد عجبت لكبار الأدباء مثل الرافعي رحمه الله وهو ينتقد كتابات مسيلمة ويحتفي بشأنها!!!
ألا فاليخش المؤمنون على يقينهم وتصديقهم بوعد ربهم؛ إذ الله لا يخلف الميعاد.
وكل احتفاء بمثل هذه الأقاويل فلهو شك في وعد الله وصدق كتابه؛ إذ ما كان لمن يصدق كلام الله أن يصدق كلام يناقضه؟
¥