وهكذا نفهم أن القرآن هو الجانب الموضوعي في الكتاب "الحق" (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) (سبأ 43). وفي قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) (الأحقاف 7).
هنا نرى أن الإعجاز جاء في القرآن فقط، وليس في أم الكتاب إذ أن أم الكتاب ذاتية، وهكذا لا يمكن أن نرى في أي آية من آيات الأحكام مصطلح (قال الله)، هذا مستحيل .. إنما نرى أن آيات الأحكام جاءت ضمن الصيغ التالية:
- صيغة أمر: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل 90).
- صيغة نهى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) (التحريم 2).
(كتب عليكم الصيام) (البقرة 183).
(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم) (النساء 24).
- صيغة وصايا: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء 11).
أي أنه لا يمكن أن نرى آية واحدة من آيات الرسالة "الأحكام" فيها عبارة (قال الله)، لأنه لو جاءت بهذه الصيغة (قال الله صلوا) أو (قال الله صوموا)، مع الأخذ بالحسبان أن قول الله هو الحق (قوله الحق) (الأنعام 73) -فهذا يعني أن الصلاة والصوم حقيقة موضوعية موجودة خارج الوعي. ولأصبحت الصلاة والصوم ناموساً لا يمكن مخالفته. ولرأينا أن الناس جميعاً دون استثناء صاموا وصلوا من دون أن يكون لهم أي خيار في ذلك، ولأصبحت الصلاة والصوم كعملية هضم الطعام ونبض القلب يلتزم بأدائهما الناس آلياً.
من هنا وللدقة وجب علينا أن لا نطلق عبارة (قال الله) على الأحكام ولكن نقول: أمرنا الله بالصلاة ونقول: أمرنا الله بالصوم، ونقول: أمرنا الله تعالى بصلاة الجمعة في الآية: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة .. ) (الجمعة 9). ولا نقول: قال الله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة …) فإذا قلنا: قال الله صلوا، وكان هناك أناس لا يصلون، فهذا يعني أن قوله غير نافذ وهذا يناقض قانون (قوله الحق) هذا إذا أردنا أن نتقيد بالمصطلح القرآني البحت. أما قولنا عن كل آية وردت في الكتاب: (قال تعالى) فهذا مصطلح مجازي بحت يقصد به الصياغة اللغوية للكتاب كله الذي أنزل من عند الله وهو من صياغة رب العالمين.
من هنا يجب أن نفهم أن كلمات الله نافذة لا مجال لتبديلها ولا خيار لنا في تنفيذها أو عدم تنفيذها لأن كلماته عن الوجود ونواميسه العامة وأحداثه الجزئية حين وقوعها. لذا قال عن القرآن: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً) (الكهف 27) هنا قال عن كلمات الله: إنها غير قابلة للتبديل وإن الإنسان لا يستطيع أن يحيد عنها (ولن تجد من دونه ملتحدا)، فلو كانت الآية (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء 11) هي من كلمات الله، ورأينا أناساً لا يلتزمون بها ويبدلونها، لكان ذلك يعني كذب ما جاء في الآية (لا مبدل لكلماته).
وهكذا نفهم قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف 109). بما أن كلمات الله هي عين الموجودات ونواميسها العامة والخاصة حين وقوعها، ونعلم الآن مدى كبر هذا الكون حسب معلوماتنا، فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف لنا الموجودات من خلال كلام الإنسان، للزم أن يكون البحر مداداً لهذه الكلمات ولا يكفي.
أما قوله تعالى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) (البقرة 58) (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) (البقرة 59).
¥