تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وذكرتم أن في لغة العرب دقائق وأسرارا لا تنال إلا بجهد التأمل وفرط التيقظ، فلا يخفى أن هذه الاسرار والدقائق لا يمكن دعواها في الاسماء المفردة والافعال المفردة والحروف المفردة، وإنما يمكن دعوى هذه الاسرار على تقدير ارتباط الكلم، وجعل بعضها يتصل بسبب بعض وينتظم، ومثل هذا موجود في كل لسان إذا ربطت بعض الكلم ببعض، وراعيت في ربطها الاليق فالاليق، حصل لك المقرر والمقصود، وقارن في هذه القضية لغة العرب وغيرها من اللغات على السواء.

ومنها: أنه لا يخفى أن القرآن سيد معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام، والعلم بكونه معجزا علم ضروري، ولكن الشأن في بيان إعجازه، فمن قائل يقول وهو النظام (1) ومن تبعه: إن الآية والاعجزية في القرآن اختصاصه بالاخبار عن الغيوب بما كان ويكون، وبمنع الله العرب أن يأتوا بمثله. قال: وأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد، لو لا أن الله تعالى منعهم وأعجزهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم.

ومن قائل يقول: وجه الاعجاز في القرآن أنه اسلوب من أساليب الكلام، وطريقة ما عهدها العرب ولا عرفوها، ولم تكن مقدورة لهم.

ومن قائل يقوله: وجه الاعجاز فيه علمنا بعجز العرب العاربة عن أن


(1) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري، أبوإسحاق النظام، من أئمة المعتزلة، تبحر في علوم الفلسفة، واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين، وانفرد بآراء خاصة ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل، تابعته فيها فرقة من المعتزلة، سميت «النظامية» نسبة إليه، أما شهرته بالنظام فبعض يقول:
إنها من إجادته نظم الكلام، وبعض يقول: إنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، توفي سنة 231 هـ.
انظر «أمالي المرتضى 1: 132، تأريخ بغداد 6: 97، الملل والنحل 1: 56، سفينة البحار 2: 597، الاعلام 1: 43».

(214)

يأتوا بمثله، وتركهم المعارضة مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم، فإذا عجز العرب عن ذلك فنحن أولى بالعجز.
ومن قائل يقول: وجه الاعجاز فيه هو ما اختص به من الفصاحة والبلاغة التي بهرم عند سماعها، وطأطأوا رؤوسهم عند طروقها، وعليه الاكثرون.
فإن عسى اعترض المعترض وقال:
ماذا أعجزهم؟ وما ذا أبهرهم؟ ألفاظ القرآن أم معانيه؟! إن قال: أردت الالفاظ مع شيء منهما لا يجب فضل البته على تقدير الانفراد، لان الالفاظ [لا] تراد لنفسها، وإنما تراد لتجعل دلالات على المعاني، ولان الالفاظ التي نطق بها القرآن ليست إلا أسماء وأفعالا وحروفا مرتبطا بعضها ببعض، ويستعملونها في مخاطباتهم، وكذلك الجمل المنظومة.
وإن قال: أعجزهم المعاني. يقال له: أليس انهم كانوا أرباب العقول وأهل الحجى، يدركون غوامض المعاني بأفهامهم، ولهم المعاني العجيبة، والتمثيلات البديعة، والتشبيهات النادرة.
وإن قال: بهرم النظم العجيب. يقال له: أليس. معنى النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض، وهي الاسماء والافعال والحروف، ومعرفة طرق تعلقها، كتعلق الاسم بالاسم، بأن يكون خبرا عنه أوصفة له أو عطف بيان منه، أو عطفا بحرف عليه، إلى ماشاكله من سعة وجوهه، وكتعلق الاسم بالفعل، بأن يكون فاعلا له، أو مفعولا، إلى سائر فروعه واتباعه، وكتعلق الحرف بهما كما هو مذكور في كتب النحو، وهم كانوا يعرفون جميع ذلك، وكانوا يستعملونه في أشعارهم وخطبهم ومقاماتهم، ولو لم يعرفوا وجوه التعلق في الكلم، ووجوه التمثيلات والتشبيهات، لما تأتي لهم الشعر الذي هو نفث السحر.
فحين تأتي لهم ذلك، ومع هذا عجزوا عن المعارضة، دل على أن الله تعالى أحدث فيهم عجزا ومنعا.

(215)

قال: ولان الاعجاز في القرآن لو كان لمكان اختصاصه بالفصاحة والبلاغة لنزل القرآن من أوله إلى آخره في أعلى مراتب الفصاحة، ولكان كله على نسق قوله تعالى: «وقيل يا ارض ابلعي مائك ويا سماء اقلعي وغيض الماء. . .» (2). وليس كله نزل على هذا النسق، بل فيه ما هو في أعلى مراتب الفصاحة كما ذكرنا، وما هو دونه كقوله تعالى: «تبت يدا أبي لهب وتب» و «اذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ» و «قُلْ يَا اَيُّهَا الْكَافِرُونَ».
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير