تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وسألني الاجابة عن تلك السؤالات بنظم رسالة من أبلغ الرسالات، تقع من السائل موقع الفرات (15) من الحران (16)، وتنزل منه منزلة السداد من الحيران، وكرر الطلب وردد، وألح فيه وشدد، وضيق علي الامر وعوصه، وقال: أنت الذي عينه الله وشخصه، حتى لم أجد بدا من إجابته إلى ما أراد، وإسعافه بما ابدأ فيه وأعاد، وكان أمثل الامرين أن الجم نفسي وأحجرها، وأن القمها حجرها، ولا أفغر بمنطق فما، ولا أبل بجواب قلما، وليس بين فكي لسان دافع، وليس في ماضغي ضرس قاطع، ولا بين جنبي نفس حركة نشيطة، ولكن حردة (17) مستشيطة، لما أنا مفجوع به من مفارقة كل أخ كان يسمع مني الكلمة الفذة فيضعها على رأسه، ويعض عليها بأضراسه، ويتقبلها بروحه، ويلصقها بكبده، ويجعلها طوقا في أعلى مقلده، ويسكنها صميم فؤاده، ويخطها على بياض ناضره بسواده، لولا خيفة أن تسول له نفسه أنني أقللت الاكتراث بمراسلته، وأخللت الاحتفال بمسألته، وأن يقول بعض السمعة ـ ممن يحسب لساني لسان الشمعة ـ:

أقسم بالله قسما ما وجد في ديسم (18) دسما، فمن ثم ضرب عنه صفحا، وطوى


(13) أفرغ: صب، وصماخ ككتاب: الاذن، وكغراب: الماء، وقرية: الحوصله. والمراد بها ما اشتهر به من البلاغة حتى صارت له كالعلم، كما صار اسم حاتم للكرم، والتفسير عليها دون القرية واحدة القرى، ودون القربة سقاء الماء واللبن، أي وإن صب اذن حافظته، أو استنزف ماء قريحته، كناية عن إجهاد نفسه في البيان، وخنق فرسه في الميدان، فهذه الاسئلة إن قرعت له سمعا يضيق بها ذرعا، ويبقى خابطا في الشك والجدل، لا حول له بها ولا حيل. «هـ م».
(14) لا تسقط أي لا تخطئ، ونزع القوس مدها، ونشابه أي نبله، أي هذه السؤالات كما يقصر عنها المذكورون من أئمة الادب، فإنها تصيب بلاغة سادات العرب، ولا تخطئ نبل متقوسهم في ارب. «هـ م».
(15) الفرات: أشد الماء عذوبة «لسان العرب ـ فرت ـ 2: 65».
(16) الحران: العطشان «مجمع البحرين ـ حرر ـ 3: 264».
(17) يقال: حرد الرجل حرودا إذا تحول عن قومه وانفرد. انظر «النهاية ـ حرد ـ 1: 362».
(18) الديسم: بالفتح ولد الدب، قال الجوهري: قلت لابي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة،
==

(220)

عنه كشحا، ولم يوله لمحه طرف، ولم ينطق في شأنه بحرف.
أما العرب فقد صح أن لغتها أصح اللغات، وأن بلاغتها أتم البلاغات، وكل من جمح في عنان المناكرة، وركب رأسه في تيه المكابرة، ولم يرخ للتسليم والاذعان مشافره (19) فما أفسد حواسه ومشاعره! وهو ممن أذن بحرب منه لعقله الذي هو إمامه في المراشد، ولتمييزه الذي هو هاديه إلى المقاصد.
إعلم يا من فطر على صلابة النبع، وامد بسلامة الطبع، ووفق للمشي في جادة العدل والانصاف، وعصم من الوقوع في عاثور الجور والاعتساف، فإن واضع هذا اللسان الافصح العربي من بين وضاع الكلام، إن لم يكن واضعه رافع السماء وواضع الارض للانام، فقد أخذ حروف المعجم التي هي كالمادة والعنصر، وبمنزلة الاكسير والجوهر، فعجمها مبسوطات فرائد، ودافها (20) الواحد فالواحد، وتقلقلت في يده قبل التأليف، تقلقل الدنانير في أيدي الصياريف (21)، حين تراهم ينفون زيفها وبهرجها (22)، ويصطفون إبريزها وزبرجها، فتخير من بينها أطوعها مخارج، وتنخل منها أوطأها

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير