قولكم: فعجز الذين خوطبوا بالقرآن عن أن يأتوا بمثله، وعجزهم هذا ثابت بطريق التواتر ولم يعرف التاريخ ولا روى أحد أنهم أتوا بمثله. وهذا التحدي ليس خاصاً بالذين خوطبوا بل هو تحدٍٍّ عامٍّ إلى يوم القيامة. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالقرآن متحدٍّ للبشر كلهم منذ نزوله إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثله. ولذلك ليس القرآن معجزاً للعرب الذين كانوا في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، ولا العرب وحدهم في كل زمان ومكان، بل هو معجز للناس أجمعين، لا فرق بين قبيل وقبيل، لأن الخطاب به للناس أجمعين.
فنقول: إنك لم تبيّن الفروق التنزلية والأسلوبية والسياقية في مراحل آيات التحدّي. ولا يخفى على أحد أن لهذه الفروق دلالاتها في تعيين وجوه الإعجاز، وفيما يلي بيان ذلك: لقد تحدّى القرآن العرب في أكثر من آية على مراحل متعدّدة:
أولاً: تحدّاهم أن يأتوا بمثله من غير تعيين قدر، قال تعالى: " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ " (الطور: 34).
ثانياً: لما عجزوا عن الإتيان بمثله أرخى لهم القرآن العنان، فقال: " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (هود: 13).
ثالثاً: فلما عجزوا ولم يستطيعوا خفّف عنهم القرآن، فقال: " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (يونس: 38).
رابعاً: ولكن القوم عجزوا كذلك، فتحدّاهم القرآن للمرة الأخيرة، فقال: " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة: 23).
والمتتبع لهذه المراحل يلاحظ عدّة أمور:
أولاً: أن المراحل الثلاث الأولى كلها مكية التنزّل، فالطور وهود ويونس سور مكية باتفاق، أما الآية الرابعة فهي مدنية باتفاق.
ثانياً: أن المراحل الثلاث الأولى خوطب بها العرب لأنهم هم المتحدّون فيها. أما المرحلة الرابعة فقد خوطب بها الناس جميعاً، يدلّ لذلك سياق الآيات " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " (البقرة: 21 - 23).
ثالثاً: أن المراحل الثلاث الأولى مختلفة من حيث الأسلوب عن المرحلة الرابعة: ففي المرحلة الأولى قال: (فليأتوا بحديث مثله)، وفي الثانية قال: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)، وفي الثالثة قال: (فأتوا بسورة مثله)، أما المرحلة الرابعة فجاء الأسلوب فيها مختلفاً، حيث قال: (فأتوا بسورة من مثله). فكلمة (من) لم تذكر إلا في المرحلة الرابعة.
إذن هناك اختلاف بين المراحل الثلاث والمرحلة الرابعة من حيث التنزّل ومن حيث السياق ومن حيث الأسلوب. ولهذه الفروق دلالاتها في تعيين وجوه الإعجاز – كما أشرنا ..
فإذا كان التحدّي في المراحل الثلاث المخاطب به العرب، والعرب كان البيان بضاعتهم والبلاغة سجيّتهم، فإن المرحلة الرابعة المخاطب بها الناس جميعاً عربهم وعجمهم. وإذا كانت المراحل الثلاث الأولى خالية من كلمة (من)، فلقد جاءت المرحلة الرابعة مشتملة على هذا الحرف الدالّ على التبعيض.
ومعنى هذا أن المرحلة الأخيرة كان التحدّي فيها للناس جميعاً، ولا يعقل أن يتحدّى الناس جميعاً بالبيان وحده، إنما هو تحدّ عام عموم المخاطبين به. ولذلك نقرّر أن وجوه الإعجاز متعدّدة، وأن القرآن الكريم معجز من حيث بيانه، ومن حيث تشريعه، ومن حيث ما فيه من حقائق علمية، ومن حيث ما فيه من أخبار غيبية، إلى ما هنالك من وجوه أخر.
¥