قولكم: إذن القرآن كما بينت الآيات أعلاه، هو نصٌ عربي، وهو كتاب هداية، وهو منزلٌ من عند الله، والمطلوب من العرب والناس أجمعين أن يأتوا بمثله، أي بنص ٍ عربي على غراره، أو أعلى منه، وهذا لم يكن ولن يكون، والبحث هنا لا يدور عن البحث في كنهه واستنباط ما فيه من أسرار وعجائب إذ هذا الأمر لا علاقة له هنا، وهنا ليس محل بحثها، فالبحث في هذه الآيات منصبٌ على كونه عربياً ليس غير. ومن ثم ليست آيات التحدي السابقة هذا موضوعها بل الموضوع أن يأتوا بمثله وقد بان لنا (مثله)، وهو نصٌ عربيٌ مبين، صفته الإبانة وليس فيه شيء من العُجمة.
فنقول كما قال الشاعر: يا باريَ القوسِ برياً ليس يصلحه --- لا تظلم القوس، أعطِ القوسَ باريها ..
فهل أن الرائدين في أوجه الإعجاز القرآني ينهلون من علمه بلغات الأعاجم، أم أن ألفاظ القرآن العربية المبينة هي التي تحتمل المعاني التي يستنبطونها؟ ولنضرب مثلاً لتوضيح ما نرمي إليه. فانظر – أعانني الله وإياك على تدبّر كتابه - إلى قوله تعالى: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ "، ثم ارجع إلى لسان العرب، تجد أنه أدرج فيه ثلاثين معنىً مختلفاً لكلمة (علق). ولقد انتقى الدكتور إبراهيم خليل جميع الصفات الشاملة لهذه الكلمة وصنّفها حسب المعاني التي تؤدّيها، فكانت النتيجة ما يلي:
• مراحل تكوين وتطوّر ونموّ الجنين (السائل المنوي – حدوث الحمل – الجنين داخل الرحم)
• المواد الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان لاستمرارية حياته، مثل: الماء، اللبن، الطعام، الدم ..
• أنشب في الشيء وتشبّث به كالجبل والأرض وما شابه .. فهو ينشب في رحم أمه عندما كان جنيناً، ثم عندما يكبر فإنه ينشب ويتشبّث بالأشياء كالأرض والممتلكات ..
• حبّ التملّك والأثرة وحبّ الاستيلاء على الأشياء والرغبة في ألا تفلت منه (دائماً متعلق بالدنيا)
• حبّ الإغارة والعدوان وأخذ كل شيء يصيبه
• التعوّد والتعلّق بالأشياء وملازمتها (العرف والعادات والتقاليد)
• الحرص وحبّ المال
• التعلّم من الغير والأخذ منه، وأحياناً إنكار مَن أسدى لك معروفاً
• التسرّع والعجلة والالتواء في المعاملة
• الحبّ والعشق والعواطف وما يقابلها من التباعد والكره والتنافر
• شدّة الخصومة وقوة البلاغة وحبّ الجدل
• حبّ التفاخر والتفوّق والشغف بالألقاب
• الحياة التجارية بين الناس (البضائع)
• الجزء النفيس الغالي في أي إنسان وهو الروح
• كما أحاطت اللفظة بمرحلتي ما قبل حياة الإنسان وما بعدها، وهو الموت، فأي إنسان قد نشأ من العدم (الموت) ثم إنه صار لا محالة إلى العدم (الموت).
وكما ترى فإن هذه المعاني المختلفة التي تؤدّيها كلمة (علق) قد شملت كل إنسان على وجه الأرض من حيث أصله وفصله ونوعه وطباعه وسلوكه .. إذ إنها حوت جميع ما في الإنسان من صفات تشريحية ووظائفية ونفسية وعاطفية وسلوكية .. وذلك منذ بدأ يتخلّق في بطن أمه حتى صار رجلاً يحبّ ويكره ويجادل ويخاصم ويتعلق ويلتوي ويتعوّد ويتعلم ..
فكل هذه المعاني تجدها مجتمعة في هذه الكلمة العربية الفصيحة المبينة .. كلمة واحدة مكوّنة من ثلاثة أحرف .. ولكن فيها من الإعجاز ما يمكن شرحه في مؤلفات ضخمة ..
فيأتي اللغوي ليبيّن لك دلالة هذه الكلمة في اختيارها ومظهر إعجازها بتعلقها بحرف (من) وأنه لا يمكن استبدالها بكلمة أخرى .. ويأتي العالم في الطب ليقول فيها من وجهة نظر الطب، ويأتي العالم في التشريع ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع، ويأتي العالم في النفس ليقول فيها من وجهة نظر الطباع، ويأتي العالم في الاجتماع ليقول فيها من وجهة نظر السلوكيات، ويأتي العالم في الأجنة والتشريح ليقول فيها ألطف وأدقّ مما قاله سابقيه .. وهكذا ..
هذا هو إعجاز القرآن. وهكذا تتجلّى معانيه المعجزة .. فهو كتاب مفتوح للنظر .. عجيب كله .. فكما أن اللغوي يرى القرآن معجزاً، يراه الأديب معجزاً ويراه أرباب القانون والتشريع معجزاً ويراه علماء الاقتصاد معجزاً ويراه المربّون معجزاً ويراه علماء النفس معجزاً ويراه علماء الاجتماع معجزاً ويراه الأطباء معجزاً ويراه الفلكيون معجزاً ويراه كل راسخ في علمه معجزاً ..
وكون القرآن يحوي الحقيقة النسبية التي يفهمها العالِم الباحث بحسب المناخ الثقافي الذي يعيش فيه، وكونه يحوي الحقيقة المطلقة في آن .. فهذا يدلّ على إحكام ما بعده إحكام، ولا يمكن لأي من إنس أن يأتي بمثله ولا جان، وهو لعمري الإعجاز بعينه ..
فالقرآن ينتقي من الكلمات ما هو أغناها بالدلالة، ويختار من أدوات التعبير ما يعطيك من المعنى ما هو دائماً متجدّد متدفّق، بحيث يسع وجهات النظر المختلفة .. ولذلك تجد أن كل من غاص في لُجج هذا الكتاب العجيب، قد عاد بلؤلؤة كريمة أو عقد نظيم ..
قولكم: ولا أدري كيف فهم الفاهمون أو المقلدون أن الإعجاز كان مطلوباً بهذه الأوجه الأخرى.
فنقول: لا أظنّ أننا من المقلدين - أخي الكريم .. ولعلّ ما بيّنه الدكتور محمد عبد الله دراز في إعجاز الكلمة القرآنية كفاية، قال - رحمه الله: وهكذا يخيّل إليك أنك أحطت خُبراً به، ووقفت على معناه محدوداً، ولو رجعت إليه كرّة أخرى لرأيتَك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهاً عدّة، كلها صحيح أو محتمل للصحّة، كأنما هي فصّ من الماس يعطيك كل ضلع فيه شعاعاً، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها فلا تدري ما تأخذ عينك وما تدع، ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى فيها أكثر مما رأيت. وهكذا تجد كتاباً مفتوحاً مع الزمان يأخذ كل منه ما يُسّر له، بل ترى محيطاً مترامي الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد والأجيال.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ..
والحمد لله من قبل ومن بعد ..
¥