تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالواو الأولى فاءٌ والثانية عينٌ وليس هذا موضع الكلام في ذلك فيستقصَى، وأما الضرب الأول، فإذا كان المثْبَت من الشَبَه في الفرع من جنس المثْبَت في الأصل، كان أصلاً بنفسه، وكان ظاهرُ أمره وباطنُهُ واحداً، وكان حاصل جمعك بين الورد والخد، أنك وجدت في هذا وذاك حمرةً، والجنس لا تتغير حقيقته بأن يوجد في شيئان، وإنما يُتصوَّر فيه التفاوت بالكثرة والقلّة والضعف والقوة، نحوَ أن حمرةَ هذا الشيء أكثر وأشد من حمرة ذاك، وإذا تقرَّرتْ هذه الجملة، حصل من العلم بها أن التشبيه الحقيقي الأصلي هو الضرب الأول، وأن هذا الضرب فرع له ومرتَّب عليه، ويزيد ذلك بياناً: أنّ مدار التشبيه على أنه يقتضي ضرباً من الاشتراك، ومعلوم أن الاشتراك في نفس الصفة، أسبقُ في التصوُّر من الاشتراك في مقتضَى الصفة كما أن الصفة نفسها مقدَّمة في الوهم على مقتضاها، فالحلاوة أوّلاً، ثم إنها تقتضي اللذّة في نفس الذائق لها، وإذا تأملنا متصرَّف تركيبه، وجدناه يقتضي أن يكون الشيئان من الاتفاق والاشتراك في الوصف، بحيث يجوز أن يُتَوهَّم أن أحدَهما الآخرُ، وهكذا تراه في العرف والمعقول، فإنّ العقلاء يؤكّدون أبداً أمر المشابهة بأن يقولوا: لا يمكنك أن تفرق بينهما، ولو رأيت هذا بعد أنْ رأيت ذاك لم تعلم أنك رأيت شيئاً غير الأوّل، حتى تستدلَّ بأمر خارج عن الصُّورة، ومعلومٌ أن هذه القضية إنما توجد على الإطلاق والوجودِ الحقيقيِ في الضرب الأول وأمَّا الضربُ الثاني، فإنما يجيء فيه على سبيل التقدير والتنزيل، فأما أن لا تجد فصلاً بين ما يقتضيه العَسل في نفس الذائق، وما يحصل باللفظ المرضيّ والكلام المقبول في نفس السامع، فما لا يمكن ادّعاؤه إلاّ على نوع من المُقاربة أو المجازفة، فأمَّا على التحقيق والقطع فَلاَ، فالمشابهاتُ المتأوَّلة التي ينتزعها العقل من الشيء للشيء، لا تكون في حدّ المشابهات الأصلية الظاهرة، بل الشبه العقلي كأنَّ الشيء به يكون شبيهاً بالمشبّه.

ـ[المكي]ــــــــ[23 - 01 - 2006, 09:35 م]ـ

(15)

فصلثم إن هذا الشبه العقلي ربما انتُزع من شيء واحد، كما مضى انتزاع الشَّبه للفظ من حلاوة العسل وربما انتزع من عِدَّة أمورِ يُجْمَع بعضها إلى بعض، ثم يُستخرَج من مجموعها الشَبَهُ، فيكون سبيلهُ سبيلَ الشيئين يُمزَج أحدهما بالآخر، حتى تحدُث صورة غير ما كان لهما في حال الإفراد، لا سبيل الشيئين يَجمَع بينهما وتُحفَظ صورتهما، ومثالُ ذلك قوله عزّ وجلّ: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَار يَحْمِلُ أسْفَارَاً" "الجمعة:5"، الشبهُ منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودَعُ ثَمَر العقول، ثم لا يُحسّ بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرِّق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدَّلالة عليه بسبيل، فليس له مما يحمل حظٌّ سوى أنه يثقُلُ عليه، ويكُدُّ جنبيه فهو كما ترَى مُقْتضَى أمورٍ مجموعةٍ، ونتيجةٌ لأشياءَ أُلّفت وقُرن بعضها إلى بعض، بيانُ ذلك: أنه احتيج إلى أن يراعَى من الحمار فعلٌ مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئاً مخصوصاً، وهو الأسفار التي فيها أماراتٌ تدلّ على العلوم، وأن يُثلَّثَ ذلك بجهل الحمار ما فيها، حتى يحصل الشبه المقصود، ثم إنه لا يحصلُ من كل واحدٍ من هذه الأمور على الانفراد، ولا يُتصوّر أن يقال إنه تشبيه بعد تشبيه، من غير أن يقف الأول على الثّاني، ويدخل الثاني في الأول، لأن الشَّبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار، ثم لا يتعلق أيضاً بحَمْلِ الحمار حتى يكون المحمول الأسفار، ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جَهْل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره فما لم تجعله كالخيط الممدود، ولم يُمزَج حتى يكون القياسُ قياسَ أشياءَ يُبالغ في مِزاجها حتى تَتَحد وتخرُجَ عن أن تُعرَف صُورةُ كلِّ واحد منها على الانفراد، بل تبطُل صُوَرها المفردةُ التي كانت قبل المِزاج، وتحدُث صورةٌ خاصة غير اللواتي عهِدتَ، وتحصُلُ مَذَاقَةٌ لو فرضتَ حصولها لك في تلك الأشياء من غير امتزاج، فرضتَ ما لا يكون لم يتمَّ المقصود، ولم تحصل النتيجة المطلوبةُ، وهي الذمُّ بالشقاء في شيء يتعلق به غرضٌ جليلٌ وفائدةٌ شريفةٌ، مع حِرمان ذلك الغرض وعدمِ الوصول إلى تلك الفائدة، واستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والنعم الخطيرة، من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سبباً إلى نَيْلِ شيء من تلك المنافع والنِّعم، ومثال ما يجيء فيه التشبيه معقوداً على أمرين إلا أنهما لا يتشابكان هذا التشابك قولُهم: هو يَصْفُو ويكدر ويَمُرُّ ويحلُو ويشُجُّ وَيأْسُو، ويُسرِحُ ويُلجم، لأنك وإن كنت أردت أن تجمع له الصِّفتين، فليست إحداهما ممتزجة بالأخرى، لأنك لو قلت: هو يصفو، ولم تتعرض لذكر الكدر أو قلت: يحلو، ولم يسبق ذكر يَمُرُّ، وجدت المعنى في تشبيهك له بالماء في الصَّفاء وبالعسل في الحلاوة بحاله وعلى حقيقته، وليس كذلك الأمر في الآية لأنك لو قلت: كالحِمار يَحْمِل أسفاراً، ولم تعتبر أن يكون جهل الحمار مقروناً بحمله، وأن يكون متعدِّياً إلى ما تَعدَّى إليه الحمل، لم يتحصل لك المغَزَى منه، وكذلك لو قلت: هُمْ كالحمار في أنه يجهل الأسفار، ولم تشرط أن يكون حمله الأسفارَ مقروناً بجهله لها لكان كذلك، وكذلك لو ذكرت الحمل والجهل مطلقين، ولم تجعل لهما المفعول المخصوص الذي هو الأسفار، فقلتَ: هو كالحمار في أنه يحمل ويجهل، وقعتَ من التشبيه المقصود في الآية بأبعد البُعد، والنكتةُ أن التشبيه بالحمل للأسفار، إنما كان بشَرْط أن يقترن به الجهل، ولم يكن الوصف بالصَّفاء والتشبيه بالماء فيه بشرط أن يقترن به الكدر، ولذلك لو قلتَ: يصفو ولا يكدر لم تزد في صميم التشبيه وحقيقته شيئاً، وإنما استدمتَ الصِّفة كقولك: يصفو أبداً وعلى كل حال.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير