ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:23 م]ـ
مواقع التمثيل وتأثيره
واعلم أنّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمْتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشده، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ، وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث، وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري: دانِ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ --عن كل نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ
كالبدرِ أفرط في العلوِّ وضَوْءُه -- لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَريبِ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:24 م]ـ
وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية، وتُنشد نحو قول الشاعر: زَوَامِلُ للأَشْعارِ لاَ عِلْمَ عندهُمْ بِجَيِّدها إلاّ كَعِلْمِ الأَبَاعِرِ
لَعَمْرُك مَا يَدْرى البَعِيرُ إذا غَدَا بأَوْسَاقه أو راحَ مَا فِي الغَرائِر
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:24 م]ـ
والفصل بين أن تقول أرى قوماً لهم بَهاء ومنظر، وليس هناك مَخْبَرٌ، بل في الأخلاق دِقّة، وفي الكرم ضَعْفٌ وقلّة وتقطع الكلام، وبين أن تُتبعه نحوَ قول الحكيم أما البيتُ فحسنٌ، وأما السَّاكن فرديء، وقولَ ابن لَنكك: في شجَر السَرْوِ منهمُ مَثَلٌ لَهُ رَواءٌ ومَا لَهُ ثَمَرُ
وقول ابن الرُّومي: فغَدا كالخِلاف يُورِقُ للعَي ن ويَأْبَى الإثمارَ كُلَّ الإباءِ
وقول الآخر: فَإنْ طُرَّةٌ رَاقَتْكَ فانظُرْ فرُبَّمَا أمَرَّ مَذاقُ العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:25 م]ـ
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يُورق شجَرهُ ويُثمر، ويفترُّ ثغرُه ويبسِم، وكيف تَشْتار الأرْيَ من مذاقته، كما ترى الحسن في شارته، وأنشِدْ قولَ ابن لنكك: إذَا أخو الحُسْنِ أَضْحَى فِعْلُهُ سَمِجاً رأيتَ صُورتَهُ من أقبحِ الصُوَر
وتبيَّن المعنى واعرف مقدراه، ثم أنشِد البيت بعده: وهَبْكَ كالشَّمْسِ في حُسنِ ألم تَرَنَا نَفِرُّ منها إذا مَالَتْ إلى الضَّرَرِ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:26 م]ـ
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يُورق شجَرهُ ويُثمر، ويفترُّ ثغرُه ويبسِم، وكيف تَشْتار الأرْيَ من مذاقته، كما ترى الحسن في شارته، وأنشِدْ قولَ ابن لنكك: إذَا أخو الحُسْنِ أَضْحَى فِعْلُهُ سَمِجاً رأيتَ صُورتَهُ من أقبحِ الصُوَر
وتبيَّن المعنى واعرف مقدراه، ثم أنشِد البيت بعده: وهَبْكَ كالشَّمْسِ في حُسنِ ألم تَرَنَا نَفِرُّ منها إذا مَالَتْ إلى الضَّرَرِ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:27 م]ـ
وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمّل بيت أبي تمام: وإذا أراد اللّهُ نَشْرَ فَضِيلةٍ طُوِيَتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسُودِ
مقطوعاً عن البيت الذي يليه، والتَّمثيل الذي يؤدّيه، واستقص في تعرُّف قيمته، على وضوح معناه وحُسن بِزّته، ثم أتبِعه إياه: لَوْلاَ اشتِعَالُ النَّارِ فيما جاورَتْ مَا كان يُعرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:28 م]ـ
وانظر هل نَشَر المعنى تمام حُلّته، وأظهر المكنون من حُسنه، وزِينته، وعَطَّرك بعَرْف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من طلع سُعوده، واستكمل فَضْلَه في النفس ونُبْلَه، واستحقّ التقديم كُلّه، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرَق في بيت المتنبي: ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يَجِدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ
¥