ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:29 م]ـ
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع يتصوّر المعنى بغير صورته، ويُخيَّل إليه في الصواب أنه خطأ، هل كنت تجد هذه الرَوعة، وهل كان يبلغ من وَقْم الجاهل ووَقْذه، وقمعه ورَدْعه والتهجين له والكشف عن نَقْصه، ما بَلغ التمثيلُ في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى، وإن أردت اعتبارَ ذلك في الفنّ الذي هو أكرم وأشرف، فقابلْ بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يَتَّعظ يُضِرُّ بنفسه من حيث ينفع غيره، وتقتصرَ عليه وبَين أن تذكر المَثَل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الّذي يعلِّم الخيرَ ولا يَعْمَلُ به، مثلُ السِّراج الذي يضيء للناس ويُحرق نفسه"، ويروي: مَثَلُ الفتيلة تُضيء للناس وتُحرق نفسها. وكذا فوازنْ بين قولك للرجلِ تعِظُه إنك لا تُجْزَى السيئة حسنةً، فلا تَغُرَّ نفسك وتُمسِك، وبين أن تقول في أثره إنكَ لا تجني من الشَّوك العِنَب، وإنما تحصُدُ ما تزرع، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول لا تُكلِّمِ الجاهل بما لا يعرفه ونحوه، وبين أن تقول لا تنثُر الدُّرَّ قُدَّام الخنازير أو لا تجعلِ الدُّرَّ في أفواه الكلاب
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:30 م]ـ
وتُنشد نحو قول الشافعي رحمه أأنثُر دُرّاً بين سَارِحَة الغَنَمْ" وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول: هي ظلٌّ زائل، وعارِيَّةٌ تُستردُّ، ووديعة تُسترجَع، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنَْ في الدنيا ضيفٌ وما في يديه عاريَّة، والضيفُ مرتحِلٌ، والعاريَّة مُؤَدّاة"، وتُنشد قولَ لبيد: ومَا المَال والأهْلُونَ إلاّ وَدِيعةٌ-- وَلاَ بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الوَدَائعُ
وقول الآخر: إنَّما نِعمةُ قومٍ مُتْعةٌ -- وحَياةُ المَرءِ ثَوبٌ مُسْتَعار
اللّه
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:31 م]ـ
فهذه جملة من القول تُخبر عن صِيَغ التمثيل وتُخبر عن حال المعنى معه، فأما القولُ في العِلّة والسبب، لِمَ كان للتمثيل هذا التأثير؛ وبيانِ جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها، وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسباباً وعِلَلاً، كلٌّ منها يقتضي أن يَفخُمَ المعنى بالتمثيل، وينبُلَ ويَشرُفَ ويكمل، فأَوَّلُ ذلك وأظهره، أنّ أُنْس النفوس موقوفٌ على أن تُخرجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنىٍّ، وأن تردَّها في الشيء تُعلِّمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتُها به في المعرفة أحكم نحو أن تنقُلها عن العقل إلى الإحساس وعما يُعلَم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفادَ من طرق الحواسِّ أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدِّ الضرورة، يفضلُ المستفاد من جهة النَّظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا: ليس الخَبرُ كالمُعاينة، ولا الظنُّ كاليقين، فلهذا يحصل بها العِلم هذا الأُنْسُ أعني الأُنس من جهة الاستحكام والقوة، وضربٌ آخر من الأُنس، وهو ما يوجبه تقدُّمُ الإلْف، كما قيل: مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:32 م]ـ
ومعلومٌ أن العلم الأوّل أتى النفسَ أوّلاً من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرَّويَّة، فهو إذَنْ أمسُّ بها رَحِماً، وأقوى لديها ذِمَماً، وأقدم لها صُحْبة، وآكدُ عندها حُرمة وإذْ نقلتَها في الشيء بمَثَله عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواسّ أو يُعلَم بالطَّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غيرَ ممثَّلٍ ثم مَثَّلَه كمن يُخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول: ها هو ذا، فأبصِر تجده على ما وصفتُ. فإن قلت إن الأُنْس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزَوال الرَّيْب والشكّ في الأكثر، أفتقول إن التمثيل إنما أُنِسَ به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويُثبت أن كونَها جائزٌ ووجودَها صحيحٌ غيرُ مستحيل، حتى لا يكون تمثيلٌ إلا كذلك، فالجواب إن المعاني التي يجيء التمثيل في عَقِبها على ضربين غريب بديع يمكن أن يخالَف فيه، ويُدَّعَى امتناعُه واستحالُة وجوده
ـ[المكي]ــــــــ[24 - 01 - 2006, 07:33 م]ـ
وذلك نحو قوله: فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنت منهم فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ
وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ، بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه، وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود، وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لايُعَدُّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دماً البتة. والضرب الثاني أن لا يكون المعنى الممثَّل غريباً نادراً يُحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بيّنة وحُجّة وإثبات، نظير ذلك أن تنفيَ عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة،
¥