لقد بات الأمر إذن واضحاً وجلياً .. فالتوراة فيها نور، ولكنها في الوقت نفسه ضياء .. لأن شريعة موسى - عليه السلام - فيها آصار وأغلال وتكاليف تحرق .. أما الشرائع الأخرى، ونخصّ بها الشريعة الخاتمة فإنها يسر كلها. فشريعته صلى الله عليه وسلم حنيفية سمحة، أما شريعة موسى عليه السلام فشديدة .. كان اليهودي إذا أذنب يُكتب الذنب على جبينه، فإذا شرب الخمر في الليل خرج في الصباح مكتوب على جبينه شرب الخمر، وكان إذا أصاب البول بشرة أحدهم قطع البشرة. أما نحن فشريعتنا سمحة، قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ولله الحمد والشكر ..
يقول أبو الفرج الحنبلي: " لقد وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء كما قال عزّ وجلّ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48]، وإن كان قد ذكر أن في التوراة نوراً كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44]، لكن الغالب على شريعتهم الضياء لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال. ووصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نور لما فيها من الحنيفية السمحة /19/.
والله تعالى أعلم.
المصادر:
/1/ الأَضداد في اللغة، ابن الأنباري، ص 7.
/2/ الصاحبي: ص 114 - 115. وانظر ص 116 و ص 327. وانظر المزهر: 1/ 405 - 465.
/3/ الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ص 16.
/4/ الإعجاز البياني للقرآن الكريم، الدكتورة عائشة عبد الرحمن، ص 220.
/5/ الفروق اللغوية، ص 348.
/6/ المفردات، الراغب الأصفهاني، ص 303.
/7/ المفردات، ص 510.
/8/ مفردات اللغة في الفروق، ص 178.
/9/ عمدة الحفاظ، 2/ 450.
/10/ عمدة الحفاظ، 4/ 266.
/11/ بصائر ذوي التمييز، 5/ 133.
/12/ معجم كشاف المصطلحات، ص 1108 - 1110. و ص 1731.
/13/ موسوعة كوليير، 16/ 522.
/14/ مباحث في إعجاز القرآن، ص 181.
/15/ إعجاز القرآني البياني، ص 415.
/16/ جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، ص 216 - 217.
/17/ المرجع السابق، ص218.
/18/ شرح رياض الصالحين، 1/ 102 - 103.
/19/ جامع العلوم والحكم، ص 218.
يتبع ..
ـ[يوسف الساريسي]ــــــــ[23 - 03 - 2006, 11:35 م]ـ
أخي لؤي الطيب
السلام عليكم
كلام رائع فعلا ينم عن علم جم وهو جهد عظيم تشكر عليه، أدعو الله أن يزيدك منه وينفعنا بنوره.
لكن أود قبل أن نناقش ما تفضلت به تفريق بين الضياء والنور، بأن تلقي -أخي لؤي- لنا ضوءا حول اللمسة البيانية في ورود لفظة النور في القرآن مفردة، مقابل ورود لفظة الظلمات التي هي جمع ظلمة أو ظلام كثيرا في القرآن؟
بمعنى آخر ألم يكن من الأولى أن ترد لفظة النور جمعا (أنوار)، مقابل ورود لفظة الظلمات جمعا؟
ولك التحية
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[24 - 03 - 2006, 04:22 ص]ـ
الأخ الفاضل يوسف ..
نضّر الله وجهك، وعصب كل خير بحالك ..
بداية شكر الله لك كلماتك الطيّبة .. وإني أعتذر عن التأخّر في الردّ على مشاركتك .. ولكن للظروف أحكام كما يقولون ..
أما لماذا أفرد القرآن الكريم (النور) وجمع (الظلمات)، فقد يكون لسببين:
الأول: أن النور سواء أكان المراد به كتاباً يهدي إلى الرشد، أو حُجّة تكشف النقاب عن الشبهات، أو رسولاً يدعو الناس إلى الحقّ، أو إيماناً يعمر به قلب المؤمن، أو عملاً يحقّق لصاحبه رضوان الله تعالى .. فكل ذلك له مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى. ولهذه الاعتبارات وُحّد النور في القرآن تبعاً لوحدة مصدره، وهو الله نور السموات والأرض.
أما الكفر والضلالة فقد تعدّدت أسبابها ومصادرها. فالشيطان ضالّ مضلّ، والأهواء مضلّة، وأصدقاء السوء ضالّون مضلّون .. فلهذا تعدّدت الظلمات تبعاً لمصادرها ..
والسبب الثاني قد نستخرجه من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39 - 40].
فالملاحظ هنا أن أعمال الكافرين قد شُبّهت بظلمات بعضها فوق بعض. وهو تشبيه لصورة مخيفة مرعبة .. فالبحر وحده خطر على مَن يركبه، فكيف إذا كان هذا البحر ملفوفاً بظلمات من كل جانب، وهذه الظلمات لا سبيل إلى الخلاص منها، والبحر هائج ثائر، الموج فيه طبقات بعضها فوق بعض، وفوق الموج سحاب يملأ الأفق ويسدّ منافذ النور والضياء!
ولذلك فقد يراد بـ (الظلمات) في هذه الآية الكريمة الظلمة الشديدة، والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدّة. فالجمع هنا كناية، لأن شدّة الظلمة تحصل من تظاهر عدّة ظلمات، فمثلاً ظلمة ما بين العشاءين أشدّ من ظلمة عقب الغروب، وظلمة ما بعد العشاء أشدّ مما قبلها.
وأياً كان السبب في هذه التفرقة، فإن المقصود في النهاية - والله أعلم - هو إعلام الناس بأن النور ليس بالحول ولا بالقوّة، بل بفضل الله، يؤتيه الله من يشاء .. وأن مصدر النور والهداية بيد الله تعالى وحده، ومن أراد أن يتعرّض لهذا النور وأن يسلك سبله فعليه بالإسلام وبنور هدايته ..
نسأل الله أن ينير قلوبنا وبصائرنا بنوره، وأن يهدينا سبيل الرشاد ..
¥