يقول الدكتور زياد محمَّد منصور _ مُعلِّقاً على كلام الإمام أحمد _: " أي يَقِلُّ وجودُ التَّدليسِ في مرويَّاته إذا ما قورنت بكثرتها، والرأي أنَّك تحتجّ به، ولو لم يصرِّح بالسَّماع، ولمثل هذا ذهب ابنُ حَجَرٍ حيث عدَّه فيمن احتمل الأئمَّة تدليسهم وأخرجوا لهم في الصَّحيح؛ لقلَّة ما دلَّسوا إلى جنب ما رووا، والتَّحقيق أنَّ مرويَّاته لا تُحمل على الانقطاع إلاَّ فيما نصَّ الأئمَّة على ردِّ حديثه فيه إذا لم يُصرِّح بالسَّماع " (83).
وقال سليمان الشَّاذَكُونيُّ: " من أرادَ التَّدَيُّنَ بالحديثِ؛ فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة إلاَّ ما قالا: سمعناه " (84).
وقال أبو الفتح الأزديُّ: " فنحن نقبل تدليس ابن عُيينة ونظرائه؛ لأنَّه يُحيلُ على مليءٍ ثقةٍ، ولا نقبل من الأعمش تدليسه؛ لأنَّه يُحيلُ على غير مليءٍ، والأعمش إذا سألته: عمَّن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف، وعباية بن ربعيٍّ، وابن عُيينة إذا وقفته قال: عن ابنِ جُريجٍ، ومَعْمَر، ونظرائهما " (85).
وقال الحافظُ ابنُ حِبَّانَ: " وأمَّا المُدلِّسونَ الَّذين هم ثقاتٌ وعدولٌ؛ فإنَّا لا نحتجُّ بأخبارهم إلاَّ ما بيَّنوا السَّماع فيما رووا، مثل: الثوريِّ، والأعمش، وأبي إسحاق، وأضرابهم من الأئمَّة المتَّقين، وأهل الورع في الدِّين؛ لأنَّا متى قبلنا خبر مُدلِّسٍ لم يُبيِّن السَّماع فيه _ وإنْ كان ثقةً _؛ لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلِّها، لأنَّه لا يُدرى لعلَّ هذا المُدلِّس دلَّس هذا الخبرَ عن ضعيف يَهي الخبرُ بذكره إذا عُرف، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ يكون المُدلِّس يُعلم أنَّه ما دلَّس قطُّ إلاَّ عن ثقةٍ، فإذا كان كذلك؛ قُبلت روايته وإنْ لم يُبيِّن السَّماع " (86).
وقال الإمامُ الذَّهبيُّ: " وهو يُدلِّسُ، وربَّما دلَّسَ عن ضعيفٍ، ولا يدري به، فمتى قال: حدَّثنا؛ فلا كلام، ومتى قال: عن؛ تطرَّق إليه احتمال التدليس، إلاَّ في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائلٍ (87)، وأبي صالحٍ السَّمَّان؛ فإنَّ روايته عن هذا الصِّنف محمولة على الاتصال " (88).
قلت: أمَّا الأخ عوَّاد بن حسين الخلف فقد فصَّل القول في حكم مرويَّاته المُعَنْعَنة تفصيلاً جيِّداً؛ فقال:
" واعلم أنَّ عَنْعَنَة الأعمش ليست مردودة مطلقاً، بل هي على أقسامٍ خمسة:
أ _ ما رواه عنه شعبة: ورواية شعبة عن الأعمش بمنْزِلَةِ تصريحه بالسَّماعِ وإنْ عَنْعَنَ؛ لقول شعبة: " كفيتكم تدليس ثلاثة ... " وذكر فيهم الأعمش.
ب _ ما رواه الأعمش عن شيوخه المُكثرين؛ نحو:
1 - إبراهيم النَّخَعيِّ.
2 - أبي وائلٍ شقيق بن سلمة.
3 - أبي صالحٍ السَّمَّان.
فروايته عن مثل هؤلاء الشُّيوخ _ وإنْ عَنْعَنَ _ محمولة على السَّماع عند أهل العلم؛ لأنَّه مكثرٌ عنهم.
ج _ ما رواه حفص بن غياث عن الأعمش، ممَّا لم يتقدَّم ذكره في القسمين السَّابقين:
وكلُّ ما رواه حفص عن الأعمش محمول على السَّماع _ أي سمعه الأعمش من شيخه _، قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: " اعتمد البُخاريُّ على حفصٍ هذا في حديث الأعمشِ؛ لأنَّه كان يُميِّز بين ما صرَّح به الأعمش بالسَّماع وبين ما دلَّسه، نبَّه على ذلك أبو الفضل بن طاهر " (89).
د _ ما رواه الأعمشُ عن أبي سفيان طلحة بن نافع، ممَّا لم يتقدَّم ذكره في الأقسام الأربعة:
وما رواه الأعمشُ عن أبي سفيانَ مستقيم؛ كما قال ابنُ عَدِيٍّ _ وأيَّدَهُ الحافظُ على ذلك _: " أحاديث الأعمش عنه مستقيمة " (90).
هـ _ ما سوى ذلك " (91) انتهى كلام الأخ عوَّاد بتصرُّفٍ.
قلت: القسمُ الرَّابعُ الَّذي ذكره الأخ عوَّاد لي عليه ملاحظتان:
الأولى: عبارةُ ابنِ عَدِيٍّ جاءت عنه هكذا: " وقد روى عن جابر أحاديث صالحة رواه الأعمش عنه، ورواه عن الأعمش الثِّقات، وهو لا بأس به، وقد روى عن أبي سفيان هذا غير الأعمش بأحاديث مستقيمة " (92)، لا كما نقلها عنه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في " هدي السَّاري "، وبين العبارتين فرقٌ واضحٌ كما هو ملاحظ.
الثانية: نقلنا عن الحافظِ ابنِ حِبَّانَ _ سابقاً _ أنَّه قال في ترجمة طلحة بن نافع: " وكان الأعمشُ يُدلِّسُ عنه " (93).
لذا؛ لا يصفى للأخ عوَّاد من الأقسام الخمسة غير أربعة، واللَّه أعلم.
• مرتبتُهُ:
يقول الأخُ عوَّاد بن حسين: " وقد جعله الحافظُ في كتابه " تعريف أهل التقديس " من أصحاب المرتبة الثانية كما صنع العلائيُّ في " جامع التحصيل "، ولعلَّه سبق قلمٍ من الحافظِ _ رحمه اللَّه تعالى _، فقد أعلَّ هو نفسه غير ما حديث بعَنْعَنَةِ الأعمشِ، بل جعله في كتابه " النُّكت على كتاب ابنِ الصَّلاحِ " من أصحاب المرتبة الثَّالثة، وهو الصَّواب، واللَّه أعلم، لا سيَّما أنَّ كتاب " النُّكت " متأخر عن كتابه " تعريف أهل التَّقديس " في التَّصنيف، فقد أشار في " النُّكت " إلى أنَّه أفرد المُدلِّسين في جزءٍ لطيفٍ، بل إنَّ الحافظَ _ نفسه _ دافع في " هدي السَّاري " عن بعض الأحاديث الَّتي جاءت في " البخاريِّ " مُعَنْعَنَةً أنَّها من طريق حفص بن غياث عن الأعمشِ، وذلك لأنَّ حفصاً كان يُميِّز بين ما صرَّح به الأعمش بالسَّماع وبين ما دلَّسه.
ممَّا سبق يتَّضح أنَّ جَعْله من المرتبة الثَّالثة أَوْلَى من الثَّانية، واللَّه أعلم " (94).
قلت: وإلى ذلك ذهب الدكتور مِسْفر _ أيضاً _ فجعله في المرتبة الثالثة (95).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
¥