وإنما المراد عند اطلاق التخريج في عصرنا، تفصيل الكلام على طرق الحديث وتتبع مخارجها، (1) ومعرفة أحوال رواتها جرحا وتعديلا، ومعرفة مراتب رواة الحديث بالنسبة لمن رووا عنه وروى عنهم، ومعرفة اتصال السند، وتمييز انقطاعه، وتمييز التصحيف والتحريف، والوقوف على مواطن العلل فيها، وتحقيق كون العلة قادحة ام لا.
وهذا كله لا يعرف بمجرد امتلاك كتب الجرح والتعديل، والكتب المصنفة في المصطلح، ولا بمجرد قراءة مقدمات الكتب المصنفة في الحديث، بل ولا حتى بقراءة كتب الحديث كاملة، ولو أن طالب علم تحصل على الكتب المصنفة في الحديث فلا يلزم منه أن يكون مؤهل لمجرد النظر في تخريج حديث، نعم قد يؤهله لأن يتمرس في هذا الفن، أما ينظر ويحكم، فلا.
فإن تخريج الحديث يحتاج إلى خبرة طويلة في معرفة مراد أئمة الحديث سواء في الجرح والتعديل أو في السؤالات والعلل، أو في مجرد إيراد الحديث.
(1) اظر مثلا:
البدر المنير لابن الملقن، ونصب الراية للزيلعي، وتلخيص الحبير لابن حجر، وإرواء الغليل للألباني.
ويحتاج الباحث إلى معرفة مناهج النقاد والحفاظ، المتقدم منهم والمتاخر.
ويحتاج الباحث إلى معرفة مراتب المصنفين، سواء من جهة منزلتهم في هذا العلم، أو تسلسلهم الزمني، أو تصنيفهم من جهة التقدم والتاخر.
فالحديث الذي في مسند الطيالسي ليس كمثله في سنن البيهقي، والحديث في مصنف ابن أبي شيبة ليس كمثله في مستدرك الحاكم.
والحاكم لا يوزن بابن المديني، وابن حجر لا يقارن بأبي داود، والهيثمي لا يلحق بأبي حاتم، والنووي لا يقرب من البخاري.
فمثلا:
قد يخرج الإمام منهم الحديث في موضع مرفوعا، ثم يتبعه بطريق أخرى موقوفة، وهو يريد إما اعلال المرفوع بالموقوف، أو توكيد المرفوع، ببيان ضعف الموقوف.
والحديث كما قال ابن المديني: إذا لم تجتمع طرقه لا يعرف خطاؤه.
وتمييز التصحيف والتحريف قد يحتاج من الباحث ان ينظر في أكثر من نسخة للكتاب الواحد.
ثم لا بد من الحفظ، واستحظار ما يتعلق في الراوي والمروي.
وقد يحتاج الباحث ان ينظر في كل ما يتعلق بالباب صحيحه وضعيفه، لأنه قد يكون الحديث صحيحا في ظاهر إسناده، ويكون في الباب ما هو اصح منه يدل على علته، وقد يكون الثابت في الموقوف ما يدل على علة المرفوع، خصوصا اذا اختلفت رواية الراوي ورأيه، وهذا الذي يسميه أهل العلم باستقامة المتن.
ويحتاج الباحث في هذا العلم الشرف أن يكون قد قضى من عمره اكثر من عشرين عاملا على الأقل في النظر والتدرب على هذا الأمر، قبل ان يتصدى له، وأن يكون مارس وقارن وتتبع أحكام الأئمة، واكثر من سؤال اهل العلم المتخصصين، وطارحهم واكثر من ملازمتهم، وتخرج عليهم، فلا يتزبب قبل ان يتحصرم.
ولربما احتاج الباحث ان ينظر في نحو من مائة وخمسين الف اسناد، ليقف على علة في حديث.
فلا يكفي مجرد النظر فيما قيل في الراوي جرحا وتعديلا، ولا يكفي أن يشار مجردا إلى حال الراوي من جهة العلل.
أنا اضرب مثلا:
رواية عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، عن اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
فإني عندما تتبعت المصنفات في كتب الجرح والتعديل، لم اقف على ذكر رواية عكرمة عن اسماء، في كل المواضع التي ترجم لعكرمة فيها، وكذلك في المواضع التي ترجم لأسماء فيها.
وعندما تتبعت المصنفات في كتب العلل والسؤلات، والمصنفات التي تخصصت في بيان الاتصال والانقطاع كجامع التحصيل وغيره، لم أقف على قول فيه التصريح بعدم سماعه منها.
فاضطرني لأن أنظر في كل الكتب المصنفة في المتون المسندة، من جوامع ومسانيد وسنن وأجزاء، فوائد وغيرها، للتأكد من روايته عنها أو عدمها.
فلم أقف على رواية له عنها الا في موضع واحد في مصنف عبد الرزاق، ومن طريقه عند أبي عبيد القاسم بن سلام، وفيه: عن عكرمة أن اسماء سئلت.
وهذا يؤكد انه لم يسمع منها لأنها بصيغة المبني للمجهول.
وهذا البحث أخذ مني وقتا طويلا.
ومثله في تتبع مرويات عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة.
فليس يجزيء الباحث مجرد النظر في المظنات، بل قد يحتاج ان يسبر طويلا طويلا طويلا، من غير كلل ولا ملل.
وبالجملة: فلا يكفي الباحث مجرد امتلاك الكتب، ولا يكفيه مجرد النظر، بل إن البحث في أسانيد حديث بعينه، له منهجية لا بد من التمرس عليها وادراك دقائق آلية البحث نفسه.
كان ينظر في الحديث في أصوله الإصلية، كموطأ مالك، ومسند الطيالسي ومصنف عبد الرزاق.
وان ينظر في الكلام على الراوي في أصول مصنفات الجرح والتعديل وهي التي نسميها الأصلية، كتواريخ ابن معين والبخاري، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
وقد رأيتهم اليوم يكتفي احدهم بتقريب التهذيب (على علاته، واوهامه، وخلف منهجه) وهو من الكتب التي نسميها فرعية.
هذا ما يحظرني الساعة.
ولعلي افرغ - باذن الله – فاكتب عن هذا في مشاركة منفردة، فأفصل القول في هذا بأكثر مما ذكرت آنفا مع دعمه بالأدلة.
¥