أي أن الألفاظ تنتظم في اللغة على شكل مشجر: أصل واحد هو المعنى الوضعي وفروع كثيرة هي المجازات .... ولا نعني بالتفرع هنا أن المعنى المجازي مشتق من المعنى الوضعي-كما قد يوهم التشبيه بالشجرة- بل نعني فقط وجوب لحاظ أو استحضار المعنى الوضعي كلما قلنا هذا مجاز .... وهذا ما يعبر عنه البيانيون باشتراط العلاقة في الدلالة المجازية ... فلو فرضنا وجود سبع مجازات فلا بد أن تكون لها كلها علاقة ما بمعنى وضعي وحيد.هذا ما أعنيه بالتشجير وهو قريب من عبارة القوم التي تنص على أن الحقيقة كالأصل للمجاز-ولا يقولون أصل-.
- القول بالسابق واللاحق:
أي أن هناك مسارا تاريخيا مرتبا:فقد حدث الوضع أولا ثم نشأ الاستعمال ثانيا, واختبار الاستعمال هو المحدد للمجاز: فإن استعملت اللفظة في المعنى الوضعي فهي حقيقة وإلا فهي مجاز. وهذا الترتيب لا بد منه فالبيانيون يقررون أن الكلمة بعد الوضع وقبل الاستعمال ليست حقيقة ولا مجازا.
من نافل القول أنه يكفي عدم التسليم بالمسلمتين السابقتين لنتخلص نهائيا من شبح المجاز .... هذا ما فعله الشيخ-رحمه الله- وله في سبيل ذلك عبارات مختارة بعناية ودقة تنم عن احتراس شديد:
-فالشيخ يجتنب كلمة "الوضع" ومشتقاته, ويوظف كلمة "الإطلاق " ومشتقاتها فيقول:
1. وقد تطلق العرب مادة القاف والتاء واللام على غير إزهاق الروح ...
2. فتطلقه على التذليل .....
3. فمن إطلاق التقتيل على التذليل قول امريء القيس ...
4. وكذلك يطلق القتل على كسر الشدة ....
واضح أن الأمر لا يتعلق بتفضيل أسلوبي فالشيخ يريد بالاطلاق الاستعمال وشتان بين الوضع والاستعمال.
فإن قيل: الشيخ يقول بالأصل أيضا ألم تر قوله: وأصل "القتل " في لغة العرب:إزهاق الروح بشرط أن يكون من فعل فاعل ..
قلنا ليس الأمر كذلك, ف"الأصل" هنا كما لا يخفى لا يراد به ما يبنى عليه غيره بل يريد به كثرة الاستعمال لا غير ..... والدليل على ذلك قوله بعد ذلك:
(وقد تطلق العرب مادة القاف والتاء واللام على غير إزهاق الروح, فتطلقه على التذليل, فالتقتيل: التذليل, وتطلق القتل أيضا على إضعاف الشدة .... )
وتصديره الكلام بعبارة "وقد" لا يفهم منه إلا التقليل أو التكثير ولا يفهم منه البتة ابتناء شيء على شيئ ....
ويؤول تحليل الشيخ إلى القول بتعدد الأصول-بمعنى الاستعمال- بدلا من الأصل الوحيد –بمعنى الوضع-.وإذا شئنا الدقة أكثر تخلينا عن مفهوم "أصول" الموهم وبدلناه بمفهوم "التوازي" ...... ولهذا المفهوم الجديد المقترح رصيد عال من الدقة فمن أهم دلالاته تخطي مسلمتي أهل المجاز المذكورتين سابقا:
-فليس عند الشيخ انبناء شاقولي لمعاني الألفاظ ..... كما في الصورة المشجرة .... وإنما هو تواز أو تجاور عرضي أفقي. فلم توضع كلمة" قتل" جذرا بمعنى ازهاق الروح وأرجعت إليها الفروع بملاحظة علاقة ما ولكن العرب تكلمت بهذا وهذا وهذا ..... ومن التحكم بمكان الادعاء أن هذا أصل وأن ذاك فرع ..... مع أن الجميع وصل إلينا بالاستعمال ... صحيح أن الاستعمال في معنى قد يكثر حسابيا بالمقارنة مع الاستعمال في معنى آخر لكن هذا لا يرتب المعنيين أصلا وفرعا .... والمجازيون أنفسهم لا يجعلون الكثرة معيارا فهم يتحدثون عن وجود مجاز لم يستعمل في الحقيقة أبدا –ويزعمون أن اسم "الرحمن "منه- فضلا عما سيترتب عن معيار الكثرة من قتل للمجاز نفسه فكلما كثر المجاز أصبح حقيقة وكلما ندر التعبير الحقيقي أصبح مجازا وهذا خبط واضح ...
-ومفهوم التوازي ينهي أيضا الرجم بالظن على الصعيد التاريخي ..... فلا تعاقب ولكنه التزامن في الاستعمال .... فقد استعملت العرب القتل بمعنى ازهاق الروح في تزامن مع استعمالها للقتل بمعنى التذليل وفي تزامن مع استعمالها له في كسر سورة الخمر ..... وهي العرب تقول ما تشاء ..... نعم , يجوز أن يسبق استعمال استعمالا آخر في الوجود لكن هذا لا يفيد شيئا ما دمنا لا نرد أحدهما إلى الآخر ... -وقد أثبت البنيويون أنه من المتعين دراسة اللغة بالنظر إلى المحور التزامني الذي يسمونه السانكروني وقد لا يفيد اعتبار المحور التاريخي الذي يسمونه الدياكروني.-ثم قبل هذا وبعد هذا من يا ترى سيثبت تاريخيا أن هذا المعنى سبق في الاستعمال ذلك المعنى الأخر .... إلا بضرب من الكهانة على حد تعبير شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله-.
¥