2 - الاحتراس المنهجي والحساسية المفرطة من التأويل:
قال الشيخ في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (48) سورة البقرة
والمراد باتقاء اليوم: اتقاء ما فيه من الأهوال والأوجال, لأن القرآن بلسان عربي مبين , والعرب تعبر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد, ومنه "هذا يوم عصيب" [هود:88] لما فيه من الشدة, وهذا معنى قوله {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... } (48) سورة البقرة. و (اليوم) مفعول به ل"اتقوا".وقيل المفعول محذوف, واليوم ظرف. أي: اتقوا العذاب يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا.
ص 68
لما فسر الشيخ "اتقاء" اليوم باتقاء ما فيه من الأهوال ذيل تفسيره بتعليلين أو –إذا تحرينا الدقة – بتعليل, وتعليل للتعليل.
-القرآن نزل بلسان عربي مبين.
-العرب تعبر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد.
كل هذا "عادي" جدا لبادي الرأي .... ولكن النظرة الفاحصة لعارف بمنهج الشيخ في التفسير سيلمس تحت هذه الجمل العادية احتراسا منهجيا شديدا .... :
قد يقال مثلا:
هل يستدعي المقام التذكير بحقيقة بدهية من نوع: القرآن نزل بلسان عربي مبين؟
ثم قوله (والمراد باتقاء اليوم: اتقاء ما فيه من الأهوال والأوجال) أهو من الغرابة بحيث يستدعي تعليلا؟
ومن هذا المعترض البياني المفترض الذي أحوج الشيخ إلى تعليل قوله السابق العادي: "لأن القرآن بلسان عربي مبين؟ ".
لا جواب على هذه الأسئلة إلا باستحضار الخيار المنهجي للمفسر.
فقد اختارالشيخ الشنقيطي –رحمه الله- منهج السلف الذي بني على قاعدة الموضوعية الصارمة أعني عدم الاسترواح إلى اعتبارات الذات من ذوق وهوى واستحسان ... ومن هنا كان الشيخ –كأسلافه-مناوئا لكل تأويل ..... ويأتي على رأس القائمة التأويلية: المجاز. فلما قال الشيخ: "والمراد باتقاء اليوم: اتقاء ما فيه من الأهوال والأوجال." استشعر – برهافة احتراسه المنهجي-أنه "ارتكب " ما يشبه المحظور, أووقع في شائبة التأويل –شبح المجاز بدأ يطفو-.فكأن المعترض البياني واجه الشيخ بالسؤال التالي: كيف يقول الله "اتقوا يوما" وتحرفه أنت إلى "اتقوا ما فيه" .... أليس هذا من المجاز المرسل الذي تنكره بشدة: أطلق الظرف الزماني وأراد المظروف. ألم تقل في رسالتك المانعة للمجاز:"وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقا في نفس الأمر, فتقول لمن قال: رأيت أسدا يرمي ... ليس هو بأسد .. وإنما هو رجل شجاع ...... فيلزم على القول بأن في القرآن مجازا أن في القرىن ما يجوز نفيه .. "
أليس النفي ممكنا في تفسيرك , فيقال ليس هو باتقاء اليوم وإنما اتقاء ما فيه ..... ؟؟
للرد على كل هذا ومثله قال الشيخ الإمام:" والعرب تعبر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد."
بمعنى أن "اليوم" دال بالقوة على معنيين:
-الظرف
-والمظروف.
والسياق هو الذي يظهر المعنى المراد بالفعل. ولما كان القرآن نازلا بلسان العرب جاز له ان يفهم أن المراد ب"اتقوا يوما" اتقوا ما فيه من أوجال.
3 - ثنائية:الدلالة بالقوة والدلالة بالفعل.
يستهل الشيخ تحليله المعجمي للكلمات على وتيرة واحدة ... فهو يشير إلى بعض معاني الكلمة أو التعبير في القرآن الكريم أو اللسان العربي, ثم يقف عند المعنى الذي يراه هو المقصود في الآية ... وقد يسلك عكس هذا الترتيب ... وله هنا تعابير أثيرة متكررة منها (اقتصرنا على الاختيارمن بضع صفحات من تفسيره لسورة الانعام من المجالس):
-معروف في القرآن و في لغة العرب ...... [أن الفعل يسند إلى المجموع والمراد
بعض المجموع لا جميعهم.]
-[الهدى] ..... يطلق في القرآن إطلاقين: عام وخاص .....
-ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن: [أن الشيء إذا كان قليل الجدوى أطلق عليه:لا شيء] ....
-وكثيرا ما يطلق القرآن اسم [الميت على الكفر] ..
-[مادة الطيرانٍ] قد تطلقها العرب على ... [الإسراع بالرجلين].
-[الضلال] جاء إطلاقه في القرآن وفي لغة العرب على [ثلاثة أنحاء متقاربة]
التحليل الأسلوبي للغة الشيخ يظهر:
- تفضيله لمادة [ط. ل.ق] حيثما يستعمل غيره مادة [و. ض.ع.]
-اعتماد التعابير التي تدل على التعددية الدلالية لمدلول الكلمة ..... ومن وسائله استعمال حرف"قد" العددية و"من" التبعيضية فضلا عن الصيغ والكلمات الدالة على الجمع والكثرة.
هذه الظاهرة الأسلوبية تدل على نظرية في اللغة يتبناها الشيخ من مفرداتها: الاستغناء عن المجاز في تفسير كلام العرب وبالتالي كلام الله تعالى ....
فبدل القول: هذا اللفظ وضع لهذا المعنى واستعمل مجازا في معنى آخر ....
فالشيخ يقول: هذا اللفظ يدل بالقوة -في اللغة-على كل المعاني الممكنة في الاستعمالات الصحيحة ..... ويدل بالفعل –في الاستعمال -على هذا المعنى الخاص استنادا إلى قرائن السياق ...
فكأن الشيخ رحمه الله جعل الدلالة بالقوة والدلالة بالفعل بديلا للدلالة الحقيقية والدلالة المجازية.
والله أعلم.
¥