والفارق الحاسم في المسألة ـ فيما أرى ـ أننا نرى "الأسد" الذي يدور عليه الكلام، ونعلم إن كان المتكلم قد أراد به الحيوان أم الرجل الشجاع، وهذه المعرفة المباشرة تسوِّغ لنا أن نطلق على أحد الاستعمالين حقيقة وعلى الآخر مجازاً. ولكننا لا نرى رب العالمين جل جلاله، بل نؤمن به وبجميع ما ورد به الشرع من أسمائه وصفاته على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، ومن التهوّر أن نجعل ألفاظ الغيب كلفظة الأسد. فحقيقة الأمر الجهمية يعطِّلون صفات الباري عز وجل، ويلتمسون مخارج من اللغة لهذا التعطيل؛ وإذن فالخلاف معهم إنما هو على أصل التعطيل، لا على صحة المخرج اللغوي من حيث هو.
وبعبارة أخرى: عندما يقول الجهمي (صفة اليد للباري عز وجل مجاز بمعنى النعمة)، فالرد عليه لا يكون بإنكار أن اليد تأتي في اللغة بمعنى النعمة، ولا بإنكار تسمية ذلك مجازاً، ولا بإنكار المجاز من أصله، وإنما يكون برفض أن تكون هذه اللفظة وأمثالها من باب المجاز، أي بإنكار هذه التسوية بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وجعلهم ألفاظ الصفات الإلهية بمنزلة لفظة "الأسد"، مع الفارق المطلق بين قدرة البشر على تمييز الحقيقة من المجاز في لفظة "الأسد"، وعجزهم المطلق عندما يتعلق الأمر بالصفات الإلهية. وهذا على سبيل التنزُّل معهم طبعاً، وإلا فإن ألفاظ الصفات الإلهية لا يصحّ أن تُحمل على المجاز أصلاً.
فلا إشكال في أن تكون اليد ـ في العالم المنظور - علَماً على الجارحة المعروفة بحدودها وقيودها، وأن تستعمل في معان أُخر، وأن يسمى ذلك حقيقة ومجازاً، فهذا اصطلاح لا مشاحَّة فيه. وإنما يقع الإشكال عندما يتعلق الأمر بعالم الغيب وصفات الباري جل جلاله.
وجماع ذلك أن القوم يشبِّهون ثم يعطِّلون، وهم مخطئون في الأمرين معاً، ولا علاقة لخطئهم بوقوع المجاز في اللغة. ولو أقرُّوا لنا بأن اليد بمعنى النعمة حقيقة، لما نقص الخلاف شعرة واحدة.
هذا، ولقد كنت علَّقت على موضوع (هل الخلاف بين مثبتي المجاز ومنكريه له ثمرة عملية؟) في منتدى الألوكة، بما يلي، أنقله للفائدة، ولعل بعض الإخوة يعلِّق عليه، لأنه من بنات أفكاري ولا أدري لعلَّني مسبوق إليه:
أعتقد أن الخلاف على نفي الصفات أو إثباتها ليس سببه الخلاف على هذه المسألة البلاغية، ولو اتفق الطرفان على تسمية (جرى الوادي) مجازاً لما اتفقا على مسألة الاستواء على العرش. غاية ما هنالك أن تقرير وقوع المجاز في اللغة يوفِّر المصطلح العلمي لمنكري الصفات بدعوى أنها من باب المجاز، ولو أنكروها بدعوى أن هذا من أساليب لغة العرب لبقي الخلاف على حاله.
ولعل الخلاف في مسألة الصفات سرى من علم الكلام إلى علم البلاغة، لأن أساطين علم البلاغة هم المعتزلة والأشاعرة.
ومن جهة أخرى فإن بعض ما يحتجّ به منكرو المجاز لا يقوم للنقد العلمي، كقول الإمام الشنقيطي رحمه الله بأنه يلزم منه نسبة الكذب إلى الله جل جلاله. ولا يتسع المقام لأكثر من هذه الإشارة.
والذي أراه أن الرد الصحيح على المعطِّلة لا يكون بإنكار المجاز، بل بإظهار عوارهم عندما يحكمون على الغيب بأنه من باب المجاز. وطالما أشار شيخ الإسلام وغيره إلى أن القوم يشبِّهون أولاً ثم يعطِّلون ثانياً. فهذا هو مناط الخلاف الذي ينبغي التركيز عليه، وردّ الخلاف في مسألة المجاز إليه، وهو أن القوم يجعلون عالم الشهادة، بل الجزء الضئيل الذي يدركونه من عالم الشهادة، أصلاً يُقاس عليه عالم الشهادة كله وعالم الغيب كله! وهذا تصوّر فاسد بجميع المقاييس العلمية واللغوية، لأن إدراك السامع لمعنى اللفظ مقيَّد بحدود الزمان والمكان والتجربة الشخصية، فالذين عاشوا قبل مائة عام إذا سمعوا كلمة (طائرة) لا يتصوّرون إلا طائرة الأخوين رايت! وإذا سمعناها نحن اليوم تصوَّرنا الجامبو والإيرباص! وقطعاً نحن لا نستطيع أن نتصور ماذا سيكون مدلولها بعد مائة عام أو ألف عام، فضلاً عن أن نتصور معناها في عالم الغيب. وهذا التفاوت العظيم في الكيف لا يتناقض مع ثبات أصل المعنى، ومهما عظُمت الطائرة فستبقى طائرة من حيث أصل المعنى.
وانظر إلى قوله تعالى (ولا تقربا هذه الشجرة)، فأصل معنى الشجرة معروف، وكلٌّ منا عندما يسمع كلمة (شجرة) فإنه يتصوَّر الأشجار التي اعتاد عليها، ولكن لا يلزم من ذلك أن تتطابق أشجار الجنة مع أيٍّ من تصوّراتنا. ومن البديهي أن أشجار الجنة تليق بالجنة، وأنه لا يقلِّل من عظمتها أن يوجد في الدنيا أشجار تستحق أن تُطلق عليها هذه الكلمة أنها تتفق مع أشجار الجنة في أصل المعنى، بل هذا هو المعقول ما دام أن الخالق واحد، تبارك وتعالى.
وينطبق ذلك على صفات الباري جل جلاله، كما قال الإمام مالك رحمه الله (الاستواء معلوم والكيف مجهول).
والخلاصة أن هذا فيما أرى هو سبيل الرد على المبتدعة، أعنى فساد قياسهم لعالم الغيب على عالم الشهادة، لا الانشغال بإنكار وقوع المجاز في عالم الشهادة.
الرابط
http://www.alukah.net/majles/showthread.php?t=13474
¥