يظن كثيرون من المعاصرين أن كل شيء ورد له في اللغة أمثلة كثيرة فإنه يقاس عليه واختلفوا في عدد الأمثلة المراد لإباحة القياس فيرى أكثرهم كمحمد خليفة التونسي وأنستاس الكرملي والمجمع اللغوي أن مائة مثال قاطعة في جعل هذا الأمر قياسيا.
قال محمد خليفة التونسي: (وهل يلزم أكثر من هذا العدد لإثبات قاعدة لغوية، ولو كانت خارجة ن قاعدة أشيع وأكثر منها أمثلة؟!).
وهذا الاستفهام من هذا الكاتب إنما قاله على وجه التعجب، وإنما ينبغي أن نتعجب نحن من كلامه هو؛ لأنه كلام من لا علم له باللغة، فكيف يصدر من مشهود له بالتبحر مثله؟!
والذي قاله لم يقل به أحد من أهل اللغة بل لا أظن عاقلا يقرأ هذا الكلام ويراه منطقيا!
وبيان ذلك أن كلامه متناقض لأن القاعدة هي ضابط يضعه أهل اللغة استقراء من اللغة بحيث يجعلوننا نطبقه على الألفاظ دون بحث مثل رفع المثنى بالألف فإنك إذا قلت الرجلان لا تنتظر سماعا لتقوله، وكذلك إذا نصبته بالياء، فإذا فرضنا أنه ورد عن العرب مائة كلمة نصب فيها المثنى بالألف فهل يعقل أن يثبت العلماء من ذلك قاعدة تنص على أن المثنى ينصب بالألف؟! فإذا فعلوا ذلك فكيف سيطبق مطبق القاعدة الأولى؟! وهي في تلك الحالة ليست بقاعدة لأنها مخالَفة بغيرها، فليقل لي أي قائل: أي القاعدتين نطبق، أو كيف نطبقهما معا؟!
والذي أدى به إلى هذا القول العجيب المخالف للعقل والنقل هو أنه لم يعرف الأصل قبل الفصل، فطلب الفرع دون أسه، وإنك:
لن تدرك الفرع الذي رمته ............... إلا ببحث منك عن أسه
ولو بحث عن الآساس لعرف أن الإجماع حجة ولعرف كيف يعرف الإجماع، ولعرف أن كلامه مخالف للإجماع.
وإنك لتعجب من هذا الباحث في هذا الموضع فإذا تأملت بحوثه الأخرى رأيته يقيس على عشرة أمثلة وعلى أقل بل على مثال واحد ورد في اللغة لا يعرف له نظير!!
قالوا:
(فلم أتعب العلماء أنفسهم في تأصيل الأصول وتقعيد القواعد وضبط المعارف الصرفية، ولم أضاعوا أوقاتهم في حصر أوزان الكلام وأنواع جموع القلة والكثرة ولم قالوا: إن قياس كذا أن يجمع على كذا وكذا على كذا، ولست واجدا أي كتاب من كتب النحو إلا وفيه ذلك، قال ابن جني: فليت شعري أذكروا هذا ليعرف وحده أم ليعرف ويقاس عليه غيره؟!
ولو لم نقس على ما ذكروه لكان علينا أن نرجع للسماع في كل كلمة وفي ذلك من الإعنات ما فيه، والمعجمات لم تحصر لنا الكلم وأصحابها ((لم يتعرضوا غالبا ... للنص على الجموع القياسية اكتفاء بأقيسة النحو والصرف)) كما قال عباس أبو السعود في [أزاهير الفصحي])
وهذا القول يرحمك الله – لولا علمي بمقدار قائله – لقلت إنه لا يصدر إلا عن جاهل، وذلك لأن من تصفح عشر مواد فقط من (لسان العرب) مثلا يستيقن أن أصحاب المعجمات لا يفعلون ذلك بل يذكرون الجموع قياسية كانت أو شاذة، هذا ما لا يفكرون فيه مطلقا، وكيف يظن ظان أنهم لا يتعرضون في غالب الأحيان للجموع القياسية اكتفاء بأقيسة النحو والصرف مع أن هذه الأقيسة أصلا إنما أخذت في أول الأمر مما نصوا عليه فكيف انقلب الأمر وانعكس وصار الفرع أصلا لما كان له أصلا؟!
وأنت لا بد واجد في المعاصرين الكثيرين الذين يتبجحون بما قاله ابن جني في الخصائص تحت عنوان (في اللغة المأخوذة قياسا).
ولو فرضنا أن كل ما قاله ابن جني صحيح بالمعنى الذي فهموه فكيف نسوا بقية أهل اللغة وأخذوا قوله هو فقط، وكأنهم يتبعون ما تهوى أنفسهم، وقد وجدت بعضهم يتناقض فيقول إنه من المعجبين بابن جني لعبقريته ثم يصفه بما يشبه الحمق ويتهكم عليه.
ويرى عباس حسن في النحو الوافي أن ورود ثلاثين مثالا مسموعة فوق الكثير المبالغ فيه مما يطلب للقياس عليه!!!
وهذا أعجب العجب ولكن الأمر كما قال الطائي:
ولكنها الأيام قد صرن كلها .............. عجائب حتى ليس فيها عجائب
وليس كل شيء يقاس عليه وإن وردت له أمثلة كثيرة، ففي الأمر بيان وتفصيل وليس مفتوحا هكذا لكل من ظن شيئا فأثبته قاعدة كالذي يهدم بيتا لإصلاح جدا أو يدك بلدة لإنشاء طريق.
¥