وإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر وجدنا أنّ النفي كالإثبات خبر محض لا يتوقف عليه كلام قبله، ولا يترتب عليه ترتب الجواب على السؤال، فإذا قلت: "فعلتُ كذا"، أو" لمْ أفعلْ كذا" فهو خبر قابل للتصديق والتكذيب، وليس فيه طلب يترتب على تنفيذه أو عدم تنفيذه أمر ما، أو رد فعل معين، فالمتكلم أراد أنْ يخبر فحسب، ولم يرد أن يشترط لهذا الخبر شرطاً تترتب عليه نتيجة كما يترتب جواب الشرط على الشرط؛ ولذلك لم ينجزم بعده المضارع إذا خلا من الفاء؛ لأنه لم يحسن معه الشرط، فالشرط لا يحسن إلا مع الطلب، أما الخبر - سواء كان بالنفي أم بالإثبات - فلا يحسن معه الشرط، ولذلك لم يرد به سماع عن العرب، فالعرب لا تتكلم إلا بما هو صواب يقبله المنطق.
أمّا إطلاق كلمة " جواب " على الفعل المضارع المنصوب المسبوق بنفي فهو غير صحيح، وإنما هو من قبيل الاستطراد، ومجاراة لأساليب الطلب التي ينتصب معها المضارع بعد فاء السببية، ولما كان النفي - أيضاً - ينتصب معه المضارع المقترن بالفاء، أُطلق عليه طلب من قبيل التجوّز والترخص، وطرداً للتسمية على جميع الأساليب المتقدمة التي ينتصب بعدها المضارع.
ونُسِبَ جواز الجزم بعد النفي إلى الكوفيين و الزجاجي؛ (45) فأمّا نسبته إلى الزجاجيّ فما هو إلا من قبيل التعميم؛ فلما كان المضارع ينتصب بعد الفاء المسبوقة بطلب أو نفي لتضمنه معنى السببية، وبسقوط الفاء ينجزم بعد الطلب لتضمنه معنى الشرط الذي لا يحسن مع النفي لما ذكرناه سابقاً؛ أدخل النفي مع الطلب عن غير قصد، فقال: " وكل شيء كان جوابه بالفاء منصوباً، كان بغير الفاء مجزوماً " (46)، فلم يصرح بالنفي في هذه العبارة، ولو قال: " كان فعله بالفاء منصوباً " لكان أدق في التعبير؛ لأن النفي إخبارٌ لا يحتاج إلى جواب كالطلب.
أما قوله: " اعلم أنَّ جوابَ الأمرِ، والنْهي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض، والجحد، مجزوم على معنى الشرط 000" (47).
فالملاحظ أنّ عبارة " على معنى الشرط " ملحقة في بعض النسخ، وساقطة من بعضها، فلا يبعد أن تكون كلمة " الجحد " قد أُلحقت أيضاً من قبل النساخ ظناً منهم بأنه قد غفل عن إدراجها ضمن ما ينجزم بعده المضارع، إذ كان ضمن ما ينتصب بعده، وتناقل النحويون ذلك عنه ونسبوه إليه.
وعلى أي حال فقد خطّأه كثير من شراح (الجمل) وتعقّبوه وردّوه عليه (48).
وأمّا ما نُسب إلى الكوفيين فلم أجده فيما اطلعت عليه من كتبهم.
وأجاز الصيمري في (التبصرة والتذكرة) الجزم بعد النفي، ومثّل له بقوله: " ما أنت جواداً أقصدْك " (49). وقال أبو حيان: " والصحيح أنّ الجزم بعد حذف الفاء في النفي لا يجوز، ولم يرد به سماع، ولا يقتضيه قياس" (50).
نستنتج مما سبق أن الجزم بعد النفي غير جائز؛ لأنّ النفي إخبار وليس طلباً، وما نسب إلى الزجاجي والكوفيين مشكوك في صحته، والصواب ما عليه الجمهور.
ثالثاً: الجزم في جواب النهي
عرفنا فيما سبق أنّ جواب الطلب يُجزم عند سقوط الفاء إذا قُصد الجزاء، والجازم هو شرط مضمر ملحوظ من الكلام المكون من جملة الطلب وجملة الجواب معاً، يُقدر بـ " إنْ " والفعل المناسب. واختيرت " إنْ " دون غيرها من حروف الجزاء؛ لأنّها أمُّ حروف الجزاء؛ فهي لا تفارق المجازاة، في حين غيرها من حروف الجزاء قد يتصرفن فيفارقن الجزاء.
والعلّة في تقدير المجازاة - هنا - هي إيجاد مسوّغ لجزم جواب الطلب؛ إذ الطلب في حد ذاته لا يقتضي جواباً، ولا يفتقر إلى جواب، ولكن لما وجد جواب مجزوم، كان لابد من إيجاد ما ينجزم به هذا الجواب ويتوقف عليه، لذلك قدّر النحويون المجازاة، بشرط مضمر يُقدر بـ " إنْ والفعل "؛ فهذا الإضمار أو التقدير هو أمر وهميّ متخيّل، الغرض منه تسويغ الجزم في جواب الطلب؛ لذا لا يصح أن ينجزم الجواب إلاّ إذا صحّ المعنى بتقدير " إنْ والفعل "، فإذا لم يصح المعنى بتقدير الشرط، لم يجز الجزم في الجواب؛ فيجوز الجزم في نحو:" علّمني عِلْمًا انتَفِعْ به " (51)،وقوله تعالى:
? ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا .... ? (52) ويمتنع الجزم في نحو: " أطعمْ جائعاً يبحثُ عن طعامٍ".
¥