تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا ما بيَّنه عالمنا الفذّ ابن خلدون حين أكَّد أن السمع أحد الأسس لتعلم اللغات، إذ عن طريقه ينغرس الحسّ اللغوي السليم ليصبح ملكةً طبيعية في الإنسان: ((وهذه الملكة إنما تحصلُ بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطُّن لخواصّ تراكيبه، وليست تحصُل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان ولا يفيد حصول الملكة بالفعل في محلها)).

إذًا فالنحو يكمل تلك السلسلة التي ابتدأناها بسماع الكلام الفصيح، وأردفناها بقراءة نصوصه وحفظ روائعه. إنه التاج الذي يتوِّج به الطالب ما اكتسب من ملكات اللغة:

ويأتي علم البلاغة بعد هذا كله ليعلم الطالب سبل استعمال هذه الملكة التي امتلكها، كيف يتكلم؟ وكيف يصيب المعنى والقصد؟ ومتى يؤكد كلامه؟ ومتى يرسله؟ ومتى يحسن الإيجاز؟ ومتى يحسن الإسهاب؟ وأين يضع كلماته ليوافق مقتضى الحال؟ ... وغير ذلك من بحوث يثيرها علم البلاغة فتكتمل للمرء أدوات الفصاحة والبيان، لأن المهارة ليست بكثرة الكلام ولا طول البيان، وإنما هي بوضع الأمور في نصابها، وإعطاء المعاني مستحقاتها، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل تعبير أصولاً.

قال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفَّة اللسان، ولا كثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصةوقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.

ولا بدَّ من التنبيه على أمر جدّ هام وهو وجوب تعلم البلاغة من كتب أئمة البلاغة الذين كتبوا عنها بأسلوب بليغ وبيان عالٍ كالإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لأن القارئ فيهما يأخذ البلاغة من منبعها، فيتعلم أصول هذا الفن مكتوبة بقلم أديب بارع متذوق وفصيح بيِّن متفوق، فيجمع في قراءته إلى المعرفة الذوق، وإلى العلم الفنَّ، وحسبك به من غنم.

على أن ذلك لا يعني ألاَّ يستعين بالمختصرات السهلة التي وضعت في هذا الفن (كالبلاغة الواضحة)، فإنها وسيلة يتوسل بها الطالب إلى تلك الكتب الرائعة وبالله المستعان.

هذا وممَّا ظهر بأَخَرة في هذا الميدان كتاب الكفاف للأستاذ يوسف الصيداوي، وهو كتاب يعيد صوغ قواعد العربية وينفي عنها كثيرًا من غوائلها ببيان رائع ونماذج من فصيح القول تغني الطالب غير المتخصص وتزوده زادًا حسنًا.

4 - تعلم مبادئ التجويد والتمرس به:

التجويد إعطاء كل حرف حقّه ومستحقّه مخرجًا وصفة، وهو أمر يعدُّ من لوازم الفصاحة، إذ لا فصاحة لمن تتداخل الحروف في نطقه، أو يعتورها نقص في النطق، أو حَيْفٌ في الصفة، أو آفَةٌ من آفات الكلام كاللثغة والتأتأة والفأفأة وما أشبه ذلك مما فصَّل الحديث عنه أرباب الفصاحة والبيان.

إن تلقين الترتيل للناشئ في رحاب العربية أمر مهم للغاية، وهو يبدأ من كتاب الله عز وجل لينتهي بإتقان اللفظ العربي أيًا كان موضعه، إذ يضمن للناطق التلفظ بكلمات اللغة على النحو الأمثل الذي تتلقفه الآذان بشغف وتسمعه بعذوبة ويكون له أكبر الأثر في النفوس، خلافًا لمن يخرج الحروف من غير مخارجها، ويعطيها غير صفاتها مما يجعل نطقه ممجوجًا، يضيق به سامعه، وينتظر لحظة سكوته وفراغه، وما أكثر ما ابتلي الناس اليوم بمثل هؤلاء الناطقين الذي ذهبوا برُواء اللغة، ففقدت على ألسنتهم أجمل خصائصها وأروع صفاتها، واختلط حابل الحروف بنابلها، فرقَّقوا ما حقُّه التفخيم، وقلقلوا ما حقّه الاستطالة، وهمسوا ما حقّه الجهر، وضاعت على ألسنتهم مخارج الحروف وصفاتها،

فإني أزيد فأقول إن من لم يجود القرآن فلن تكتمل له أدوات الفصاحة مهما أوتي من علم بالعربية، وبصر بالأدب، وحفظ للشعر، ودراية بالنحو والصرف، لأن نطقه سيبقى في مَنْزلة لا ترقى إلى ما ينبغي للناطق بالعربية، وذلك لكثرة ما اختلط في المجتمع من اللغات واللهجات، وما كثر من الفساد اللغوي والنطقي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير