وَقَبْلَ غَدٍ، يا لَهْفَ نَفْسِي على غَدٍ ****** إذا راحَ أَصْحابِي ولَسْتُ بِرائِحِ
إذا راحَ أَصْحابِي تَفِيضُ عُيُونُهُمْ ****** وغُودِرْتُ في لَحْدٍ عليَّ صَفائِحِي
يقولُون هل أَصْلَحْتُمُ لأَخِيكُمْ **** وما القَبْرُ في الأَرضِ الفَضاءِ بِصالحِ
وقول لَبِيد بن رَبِيعة العامِرِيّ:
تَمَنَّى ابْنَتايّ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُما **** وهَلْ أَنا إلاَّ مِن رَبِيعَة أو مُضَرْ
فإنْ حانَ يومٌ أَنْ يَمُوتَ أَبُوكُما **** فلا تَخْمِشا وَجْهاً ولا تَحْلِقا شَعَرْ
وقُولا: هو المَرْءُ الذي لا خَلِيلَهُ **** أضاعَ، ولا خانَ الصَّدِيقَ ولا غَدَرْ
إلى الحَوْلِ، ثُم اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما **** ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فَقَد اعْتَذَرْ
وقول " عَبْدَةَ بن الطَّبِيب ":
أَبَنِيَّ إِنِّي قد كَبِرْتُ ورابَنِي ... بَصَرِي وفيَّ لِمُصْلِحٍ مُسْتَمْتَعُ
فلَئِنْ هَلَكْتُ فقَدْ بَنَيْتُ مَساعِياً **** يَبْقَى لَكُمْ مِنْها مَآثِرُ أَرْبَعُ
ذِكْرٌ إذا ذُكِرَ الكِرامُ يَزِيُنكُمْ **** ووِراثَةُ الحَسَبِ المُقَدَّمِ تَنْفَعُ
ومَقامُ أَيّامٍ لَهُنَّ فَضِيلَةٌ **** عِنْدَ الحَفِيظَةِ والمَجامِعُ تُجْمَعُ
ولُهىً مِن الكَسْبِ الذي يُغنِكُمُ **** يَوْماً إذا احْتَضَرَ النُّفُوسَ المَطْمَعُ
ونَصِيحَةٌ في الصَّدِر ثابِتَةٌ لكُمْ **** ما دُمْتُ أُبْصِرُ في الحَياةِ وأَسْمَعُ
أُوصِيكُمُ بِتُقَى الإِله فإِنَّهُ **** يُعْطِي الرَّغائِبَ مَنْ يَشاءُ ويَمْنَعُ
وبِبرِّ والِدِكُمْ وطاعَةِ أَمْرِهِ **** إنَّ الأَبَرَّ مِن البَنِينَ الأَطْوَعُ
إن الكَبِيرَ إذا عَصاه أَهْلُهُ **** ضاقَتْ يَداهُ بأَمْرِهِ ما يَصْنَعُ
ودَعُوا الضَّغِينَةَ لا تكُنْ مِنْ شَأْنِكُمْ **** إنَّ الضَّغائِنَ لِلقَرابَةِ تَقْطَعُ
واعْصُوا الذي يُزْجِي الضَّغائِنَ بَيْنَكُمْ **** متَنَصِّحاً، ذاكَ السِّمامُ المُنْقَعُ
يُزْجِي عَقارِبَهُ ليَبْعَثَ بَيْنَكُمْ **** حرْباً، كما بَعَثَ العُرُوقَ الأَخْدَعُ
ولقَدْ عِلمْتُ بأَنَّ قَصْرِي حُفْرَةٌ **** غَبْراءُ يَحْمِلُنِي إليها شَرْجَعُ
إنّ الحَوادِثَ يَخْتَرِمْنَ، وإنَّما **** عُمْرُ الفَتَى في أَهْلِهِ مُسْتَوْدَعُ
يَسْعَى ويَجْمَعُ جاهِداً مُسْتَهْتِراً **** جِدًّا، ولَيْسَ بآكِل ما يَجْمَعُ
إن قصيدة " مالك بن الريب " وأمثالها لهي نماذج طيبة، حقيقة بالبحث جديرة بالتأمل والنظر لما تضم بين أعطافها من مواقف دامعة وعبر وعظات حانية، من شأنها أن تغير وجهات نظر كثير من البشر في زينة هذه الحياة الدنيا.
ولم يقتصر الشعراء في هذا الغرض الشعري على رثاء النفس جملة واحدة، وإنما انخرط بعضهم في العويل والانتحاب على ذهاب عضو من أعضاء أجسادهم، أو حلول المرض به أو بالجسد كله مما حدا بكثير من الشعراء إلى رفع العقيرة بالشكوى والجأر بالألم، فممن بكى ذهاب نور بصره، وضياء عينه إثر سهم أصابها " عمرو بن أحمر الباهلي ت 75هـ" عندما قال (ديوانه 2/ 65):
ضُمّا وسادي فإنَّ الليلَ قد برَدا **** وانّ مَنْ كان يرجو النومَ قد هَجَدا
فما على الجانب الوحشي مرتفَقٌ **** ولا على الظّهر ما لم تجعلا سَنَدا
شُلَّت أَنامِلُ مَخشِيَّ فَلا اجتبرَت **** وَلا اِستَعانَ بِضاحي كَفِّهِ أَبَدا
أصارني سَهمُهُ أَعشى وَغادَرَهُ **** سَهمُ اِبنِ عيساء يَشكو النحر وَالكَبِدا
أَهوى لَها مِشقَصاً حَشراً فَشَبرَقَها **** وَكُنتُ أَدعو قَذاها الإِثمِدَ القَرِدا
أَعشو بِعَينٍ وَأُخرى قَد أَضَرَّ بِها **** رَيبُ الزَمانِ فَأَمسى ضَوؤُها خَمَدا
على أن المعول عليه في هذا النطاق هو رثاء النفس وقت الشعور بقرب الأجل، والارتعاد من دنو الموت، والخوف من المصير الواقع الذي لا مرد له، أضف إلى ذلك تكالب الحسرة، وتضاعف الآلام الجسدية، والهزال، وعدم القدرة على النهوض، وغير ذلك مما يجعل الإنسان وكأنه جثة هامدة بيد أنه في عداد الأحياء، وقد صور ذلك " تاج الدين، أبو اليمن الكندي ت 613هـ" تصويرًا جيدًا في شعر مفعم بالأحزان، ينساب على هذه الشاكلة:
1 - أنْحَلْتَ جِسْمي السِّنُون إلى أن **** صِرتُ أخْفَى مِن نُقْطَةٍ في كتاب
2 - عَرَّقَتْ أَعْظُمِي فليس عليها **** بين جِلْدِي وبينها منْ حِجابِ
3 - من رآني يقولُ هذا قناةٌ ***** كُسرتْ ثم جُمِّعَتْ في جرابِ
4 - لستُ أبكي تحتَ التُّرابِ دَفيـ ***** ـناً بعدَ ما قد بَلِيْتُ فوق الترابِ
5 - يَتَناسَى الجَهُولُ غائِلَةَ الشَّيْـ ***** ـبِ زمانَ اغتراره بالشبابِ ([1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn1))
[1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftnref1) ) أبو اليمن الكندي من شعراء العصر العباسي، جمع ديوانه سامي مكي العاني وآخر، ونشراه في العراق، بعنوان " أبو اليمن تاج الدين زيد بن الحسن الكندي البغدادي 520 - 603: حياته وما تبقى من شعره " - مطبعة المعارف – بغداد – 1977م، وأبياته هذه لا توجد في ديوانه، وهناك أشعار أخرى جملتها (70) بيتًا، أخل بها هذا الديوان، قام كاتب هذه السطور باستدراكها والدفع بها بتاريخ 18 من جمادى الثانية 1428 هـ مع التعقيب على الديوان لتنشر ذيلاً على هذا الديوان في إحدى المجلات، من هذه الأشعار:
أر عَيْنًا بَكَتْ بدمْعٍ فَعَينِي **** عَوَضَ الدَّمعِ قَدْ بَكَتْ بالسوَّادِ
أَعْوَزَتْنِي الدَّوِاةُ عِنْدَ كِتَابي ***** فأقامتْه لي مَقَامَ المدَادِ
¥