تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما السريانية بالذات؛ فلأنها أكثر لغة اتصل بها العرب الأوائل حتى قبل الإسلام، فلذلك اختاروا الإملاء السرياني في تدوين المصحف؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون غيره.

هذه دعوى كذلك، فمن قال لك أن العرب اختاروا الإملاء السرياني على غيره ودونوا به المصحف، والباحثون مختلفون في ذلك، والروايات التي وردت في ذلك لا تعتمد على وثائق قاطعة، وبينها تعارض يمنع التوفيق بينها، وأسانيدها ضعيفة عموماً لا تهام رواتها كابن الكلبي وغيره. فيبقى الكلام القاطع في هذه المسألة غير متحصل، ولعلك تراجع ما كتبه خليل نامي في أصل الخط العربي، وما كتبه غيره. ولأستاذنا الدكتور غانم الحمد كتاب قيم عن (الكتابة العربية) ذكر فيه أن (الراجح أن لكل من الكتابة العربية والكتابة السريانية تطوره المستقل عن أصلهما القديم وهو الخط الآرامي) ص 38 - 39، وأرجع القارئ أيضاً إلى كتاب خليل نامي ص 3.

ولذا إذا لم يوجد للفظ أصل في العربية، فهو إما آرامي سرياني، وإما يمني سبئي. ولكلتا اللغتين معاجم حصرت ألفاظهما، على الأقل في حدود ما نشر من نقوش، وكلتاهما قبل العربية بآلاف السنين. فكيف تكون هي الأصل؟!

هذه دعوى تفتقر إلى الدليل كذلك، فمن أين لك بالقطع بهذه السهولة بهذا الحصر؟ إلا أن يكون هذا افتراضاً كغيره من الافتراضات.

وإذا أدى البحث اللغوي إلى موافقة قول المستشرقين، فليس ثمة لوثة إن شاء الله.

المستشرقون في العصر الحديث هم أبرز من وضع معاجم هذه اللغات التي تتحدث عنها اعتماداً على بعض النقوش والآثار، وإقامة الحجج في أصل اللغات ومنها العربية على مثل هذه الدراسات مَزلَّةُ قدمٍ، نعم هي مفيدة في جوانب ولكنَّ القطع بنتائجها صعب.

وليست هذه المشكلة ولكن المشكلة هي الخطأ المنهجي الذي يرتكبونه بإقامة القواعد على افتراضات، وتقليد كثير من الباحثين العرب - كالذين ذكرتهم في كلامك - لهم دون برهان قاطع، والحديث عن أخطاء المستشرقين في هذا له كتب وبحوث لا تخفى عليك، والاطلاع على أخطاء المستشرقين المنهجية في بحوثهم في اللغة أو غيرها من الدراسات العربية والشرعية مهمة، ولا سيما لمثلك؛ لأَن للمستشرقين حضوراً كبيراً في بحوث علم اللغة المقارن، وكثير من أقوالهم أصبحت أشبه بالمسلَّمات لدى كثير من الباحثين دون تثبت.

أما أصل الاشتقاق فهذا مقرر في علم اللغة، ويدل عليه مثل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} البقرة31.

وهل المقصود بالأسماء في الآية الأسماء الاصطلاحية التي هي قسيمة للفعل والحرف؟ من قال ذلك من أهل التفسير الذين يحتج بقولهم؟

وليتك في هذه النقطة بالذات تورد الأدلة التي جعلته مقرراً في علم اللغة والتي تجعلك مطمئناً هذا الاطمئنان.

وما كان موضع خلاف بين اللغويين القدامى، قد حسمه البحث اللغوي اليوم. ولم يعد يخالف فيه إلا من كان ذا علم بالعربية لكنه جاهل بغيرها لا يعرف سواها من اللغات السامية.

وهذا على الأقل رأي الكبار: إبراهيم السامرائي - إبراهيم أنيس - رمضان عبدالتواب - رحمهم الله - الذين لا يستطيع باحث لغوي أن يكتب كلمة دون العودة إلى كتبهم.

هذا الخلاف لا يرفعه البحث اللغوي المعاصر إلا بأدلة قاطعة، وليست متوفرة قطعاً لأن هذا يعني معرفة أولية اللغة أول وضعها، وكيف ترتب وضعها، وهذا لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى. وما سوى ذلك فأقوال وافتراضات قبلها الباحثون من باب الأخذ ببعض الأقوال. وهؤلاء الباحثون الذين أشرتَ إليهم من الباحثين المميزين حقاً، وكتبهم مفيدة للباحث، ولكنهم قلدوا المستشرقين في بعض أقوالهم، واستدرك عليهم اللغويون المعاصرون ممن في طبقتهم أو أعلى منهم.

فالبحث اللغوي الذي تكرر ذكره لا يمكنه أبداً حسم مثل هذا الخلاف أخي رصين.

وأما رفع الخلاف فلا أدعيه، ولكن من جاء بدعوى فعليه الدليل. وأظنني سقت الأدلة على كلامي، وإن فاتني شيء فنبهوني. وغفر الله لنا ولكم.

بارك الله فيك أخي رصين، وظنُّك أنك سقت الأدلة على كلامك في غير محله، فلم تسق أدلةً تَحملُني على اعتناق مذهبك بعدُ، وأنا أستفيد من تعقيباتك ومداخلاتك جزاك الله خيراً ووفقك لكل خير، ولكنني ألاحظ عليك مسارعتك إلى الحسم والقطع في أمورٍ ليس الحسم والقطع من شأنها. وأطلب منك دوماً في هذا الموضوع أو في غيره أن توثق كلامك من المصادر حتى نتثبت منه بقدر الوسع ونبني عليه، فأنتَ لستَ أبا عمرو بن العلاء حتى نأخذ قولَك في لغةِ العربِ قولاً مُسلَّماً ونَمضي، وقد خصصتُه بالذكر لقول أبي منصور الأزهري: وأخبرني أبو محمد عن أبي خليفة عن محمد بن سلام أنه قال: سمعتُ يونس يقول: لو كان أحدٌ ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء كان ينبغي لقول أبي عمرو بن العلاء في العربية أن يؤخذَ كلُّه، ولكن ليسَ من أحدٍ إلاّ وأنت آخذٌ من قوله وتارك.

ونحن في ملتقى أهل التفسير نحرص على أن لا نُمرِّرَ معلومةً إلا بدليلها، وإلا فالدعاوى كثيرة، ولا سيما في تخصصك العلمي في علم اللغة المقارن، فأرجو أن تحرص على التثبت وتخالف منهج كثير من الباحثين الذي تُسلِّمُ بأَقوالهم وتحاجج بها كأنها من آي الذكر الحكيم أو أحاديث البخاري ومسلم. زادك الله علماً وتوفيقاً، علماً أن كثيراً من مسائل الخلاف في أولية اللغات ونشأتها واشتقاقها ونحو ذلك مما لا يرفع الخلاف فيه إلا الوحي، وهو غير متوفر، فرفع الخلاف متعذر.

وأما أخي عبدالرحمن النور فهو يُعرِبُ عن نفسه، ويُحاجِجُ دونَ رأيه، الذي أستمتع بمتابعته وما يجر إليه من نقاشات وفوائد.

بارك الله لكم وفيكم وفي كل الزملاء في هذا الملتقى العلمي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير