ـ[علي عدلاوي]ــــــــ[13 Aug 2010, 01:00 م]ـ
ولما كان الأصل في الإسلام السلم و حقن الدماء و تحريم الظلم، عاتب الله عز و جل ورسوله كلامهما أسامة بن زيد حينما قتل عدوه بمجرد الظن في صدق إدعائه الإسلام، فقد قال تعالى فيه خاصة و في غيره عامة: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألفى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) 25،فلما قرئت هذه الآية الكريمة على أسامة،حلف لا يقتل رجلا يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه.
وفي سياق مخالف لموضوع التبين، ينهي النبي صلى الله عليه و سلم عن التحقق في حال الظن و الشك فقال:26، و هذا من أ خلاق الإسلام العظيمة،ذلك أن الأصل في الناس البراءة،ثم إن محاولة معرفة ذلك ربما يحمل على تتبع العورات و التجسس مما يثير الاشمئزاز و الضغائن.
ولأمر ما لا تطبق الحدود الشرعية و التعازير إلا إذا وصلت إلى الحاكم ببيناتها،إما بالإقرار و الاعتراف من الجاني أو بالإشهاد على الجناية، فقال تعالى –في حد القذف – (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون) 27.
وباب (الإشهاد) من أبواب الفقه، الغرض منه، التبين و التثبت من صحة الدعاوى في المعاملات و الجنايات و الحدود.
ويندرج تحت هذا الباب موضوع الفراسة و الأخذ بالقرائن و الأمارات و القافة (أي تتبع الأثر) و اللوث (غلبة الظن في وقوع القتل)، وقد عقد الشيخ ابن قيم الجوزية في ذلك كتابا كاملا و سمه ب: (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) و بين فيه أن الحاكم من حقه إن عدم البينة و الدليل على المخالفات الشرعية أن يتبين و يتثبت بالقرائن و الأمارات ثم يبني على ذلك الأحكام. ولبيان هذا الباب النفيس نورد هاهنا مثالا واحدا من الكتاب العزيز، فقد ورد في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي اتهمت نبي الله-بهتانا- بأنه راودها على نفسها فأبت عليه، و الحق غير ذلك،و ذلك ما انتبه إليه الشاهد من أهلها بمجرد القرينة (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) 28.
ثم بعد ما ذكر الآيتين 25 - 28 من سورة يوسف من قوله تعالى (واستبقا الباب) إلى قوله (إن كيدكن عظيم)، قال:فتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب، وهذا لوث في أحد المتنازعين، يبين به أولاهما بالحق.
وهذا نبي الله سليمان عليه السلام حينما جاءه الهدهد بخبر بلقيس و قومها،لم يصدقه للوهلة الأولى بل أرسله بكتاب يتبين له من خلاله الأمر، قال تعالى في ذلك (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) 29.
ولما وصل الكتاب بلقيس و عرفت ما فيه جمعت قومها و استشارتهم في الأمر، ثم بدا لها أن تتبين و تتثبت من أمر سليمان: (و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) 30، فإن كان نبيا لم يقبل الهدية و إن قبلها فليس بنبي و لابد من قتاله،كما ذهب إلى ذلك سيد المفسرين حبر الأمة عبد الله بن عباس،فقال رضي الله عنه:"قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، و إن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه "31.
وفي موضوع التبني عندما يدعي أحد إستلحاق الولد، يتبين القاضي زعمه هذا بفارق السن أو شهادة مرضعة أو يمين ... و إلا فيعتبر أخا في الدين و مولى قال تعالى: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) 32.
ـ[علي عدلاوي]ــــــــ[13 Aug 2010, 01:02 م]ـ
خلاصة:
إن التثبت والتبين من أهم الأخلاق التي عني بها كتاب الله عز و جل و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم، و على هذا المنهج الكريم درج الصحابة و التابعون رضي الله عنهم أجمعين، حيث أسسوا لحضارة عظيمة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، فحفظ تراث الإسلام بذلك و لم تؤثر عليه حركات الوضع و التشويه. وظلت المجتمعات الإسلامية على مدى الأزمان والدهور قوية متماسكة، لم تؤثر فيها الشائعات والأراجيف، والسبب بالطبع كان راجعا لتطبيق منهج التثبت والتبين في التلقي والنقل على السواء.
ـ[علي عدلاوي]ــــــــ[13 Aug 2010, 01:03 م]ـ
الهوامش:
1 - محمد/19.
2 - البقرة/164.
3 - يونس/101.
4 - العنكبوت/20.
5 - الغاشية/17 - 20.
6 - مريم/42.
7 - التوبة/114.
8 - البقرة/260.
9 - الأعراف/143.
10 - البقرة/259.
11 - المدثر/31.
12 - البقرة/228.
13 - الإسراء/78.
14 - النساء/103.
15 - البقرة/185.
16 - متفق عليه من حديث أبي هريرة رصي الله عنه.
17 - البقرة/187.
18 - الحجرات/11.
19 - رواه البخاري عن أبي هريرة.
20 - الحجرات/06.
21 - مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني، ص360.
22 - الممتحنة/10.
23 - الممتحنة/10.
24 - مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني، ص485.
25 - النساء/94.
26 - أخرجه الحافظ العراقي في تحقيق الإحياء عن أبي هريرة.
27 - النور/04.
28 - يوسف/26 - 27.
29 - النمل/27.
30 - النمل/35.
31 - مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني، ص671.
32 - الأحزاب/05.
المصادر و المراجع:
*القرآن الكريم.
*كتب السنة.
1/مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني، شركة الشهاب، الجزائر،1990.
2/زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت،1984.
3/الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار الكتاب الحديث، الكويت،2009.
4/فقه السنة، السيد سابق، دار الجيل، نشر دار الفتح العربي القاهرة، ط10، 1993.
¥