وقد تصدى الكثير من العلماء لتفنيد هذه الأقوال ومن أجمع ما قيل في الرد عليها قول ابن حزم في الملل والنحل حيث قال: " قوله: " همت به وهم بها " فليس كما ظن بعض من لم يمعن النظر من المتأخرين، فقال: إنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، معاذ الله أن يظن هذا برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم، فكيف برسول من رسل الله صلى الله عليهم وسلم.
فإن قيل: إن هذا قد روي عن ابن عباس من طرق جيدة، قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وال
وهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دونه، أو لعل الحبر لم يقطع بذلك، إنما أخذه عمن لا يدري من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره، لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك، ولا ذكره عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومحال أن يقطع (رضي الله عنه) بما لا علم له به ولكن معنى الآية لا يعدو أن يكون أحد وجهين:
-إما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى: " وهمت كل أمة برسولها ليأخذوه" (45). لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى له وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد.
-وإما أن الكلام قد تم عند قوله:" ولقد همت به " ثم ابتدأ الله تعالى خبرا آخر فقال:" وهم بها " لولا أن رأى برهان ربه، وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل. (46).
وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره بعد أن ساق هذه الروايات وغيرها: " الظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن اسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيها ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم وبهذا نعلم أن لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية يريد أن يزني بها اعتمادا على مثل هذه الروايات .. (47). ثم شرح أوجه براءة يوسف عليه السلام.
وبين الشيخ العدوي بأن ما قاله يوسف من عبارات جافة لامرأة العزيز تدل على نفرته من المعصية وبين أن نبي الله منزه عما شحنت به بعض كتب التفسير مما لا يليق بمن أعده الله لأن يكون رسولا وهيأه ليتولى زعامة أمة في دينها وخلُقها. (48).
وقال الطباطبائي بعد أن ذكر أن ما روي عن يوسف من جلوس وغيره إنما هو إسرائيليات لا تسلم"ولو وجدت من يوسف أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما نعيت على آدم زلته وعلى داود وعلى نوح وعلى أيوب وعلى ذي النون وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد أثنى الله عليه وسماه مخلصا. (49).
ويكفي في براءته أن شهود براءته كثيرون، فالله تعالى يشهد بذلك إذ يقول: " إنه من عبادنا الصالحين"والشاهد الذي شهد من أهلها والعزيز يقولان: " إنه من كيدكن "وامرأة العزيز تقول: " أنا راودته عن نفسه " والنسوة إذ قلن:"حاش لله ما علمنا عليه من سوء"ويوسف ينفي ذلك عن نفسه وقد سماه صديقا. (50).
أما ابن العربي المعافري فقال: " قد بينا في السالف من كتابنا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا، وأن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله لا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة والنواهي، وكذلك قال الله تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص "يوسف:3،اي أصدقه على أحد التأويلات وهي كثيرة بيناها في أمالي أنوار الفجر.". (51) ..
وقال أيضا: " ... فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب الى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها، حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله سبحانه، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس، والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه مالا يليق به، وأقل ما اقتحموه من ذلك أن هتك السراويل وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل، وحاش لله ما علمت عليه من سوء، بل أبرئه مما برأه منه، فقال: " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما" .... فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفهمون حديثا ويقولون: فعل وفعل، والله إنما قال:هم بها، لا أقالهم الله ولا أقاتهم ولا عالهم" (52).
¥