الفصل الأول: ابتداء هذه المرحلة، ومصادر التفسير فى عصر التابعين، ومدارس التفسير التى قامت فيه
تنتهى المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنه.
وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم فى استجلاء بعض ما خفى من كتاب الله، اشتهر أيضاً بالتفسير أعلام من التابعين، تكلَّموا فى التفسير، ووضَّحوا لمعاصريهم خفى معانيه.
ثم قال:
مدارس التفسير التى قامت فيه
* مدارس التفسير فى عصر التابعين:
فتح الله على المسلمين كثيراً من بلادهم العالَم فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعاً فى بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامى ثم استقر بهم النوى، موزَّعين على جميع البلاد التى دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلِّمون، ومنهم غير ذلك.
وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التى رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت فى هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هى أشهر مدارس التفسير فى الأمصار فى هذا العهد.
قال ابن تيمية: "وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزَّوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة فى التفسير، مثل زيد بن أسلم، الذى أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب".
وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسِّرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: مدرسة التفسير بمكة
* قيامها على ابن عباس:
قامت مدرسة التفسير بمكة على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يُفسِّر لهم كتاب الله تعالى، ويوضح لهم ما أشكل من العناية، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
* *
* أشهر رجالها:
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان اليمانى، وعطاء بن أبى رباح.
وهؤلاء كلهم كانوا من الموالى، وهم يختلفون فى الرواية عن ابن عباس قِلَّة وكثرة، كما اختلف العلاء فى مقدار الثقة بهم والركون إليهم.
ونسوق الحديث عن كل واحد منهم، ليتضح لنا مكانته فى التفسير، ومقدار الاعتماد عليه فيه:
1 -
سعيد بن جبير
* ترجمته:
هو أبو محمد - أو أبو عبد الله - سعيد بن جبير بن هشام الأسدى الوالبى، مولاهم. كان حبشى الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال. سمع جماعة من أئمة الصحابة. وروى عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما.
* مكانته فى التفسير:
كان رحمه الله من كبار التابعين ومتقدميهم فى التفسير والحديث والفقه، أخذ القراءة عن ابن عباس عرضاً، وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة وكان يقرأ بها، يدلنا على ذلك ما جاء عن إسماعيل بن عبد الملك أنه قال: "كان سعيد بن جبير يؤمنا فى شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبداً"، ولا شك أن جمعه لهذه القراءات كان يعطيه القدرة على التوسع فى معرفة معانى القرآن وأسراره، ولكن يظهر لنا أنه كان يتورع من القول فى التفسير برأيه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن خلكان: من أن رجلاً سأل سعيداً أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال: لأن يسقط شقِّى أحب إلىَّ من ذلك. ولقد جمع سعيد علم أصحابه من التابعين، وألمَّ بما عندهم من النواحى التى برزوا فيها، فقد قال خصيف: "كان من أعلم التابعين بالطلاق
¥