وهذا باب لو فتح، لا يمكن قبول الشرائع إلا بسده.
قال النووي – رحمه الله تعالى – في شرح مسلم (المقدمة) عند قوله: (إن حمزة الزيات رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فعرض عليه ما سمعه من أَبَان، فما عرف منه إلا شيئاً يسيراً)
«قال القاضي عياض - رحمه الله -: هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت، ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء، هذا كلام القاضي.
وكذا قاله غيره من أصحابنا، وغيرهم، فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع. وليس هذا الذي ذكرناه مخالفاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني». فإن معنى الحديث أن رؤيته صحيحة، وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته، أن يكون متيقظاً لا مغفلاً، ولا سيئ الحفظ، ولا كثير الخطأ، ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه، هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة، أما إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بفعل ما هو مندوب إليه، أو ينهاه عن منهي عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة، فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه؛ لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام، بل تقرر من أصل ذلك الشيء. والله أعلم» أهـ
إذن لا بد أن يعرض صاحب الرؤيا ما رآه على ما جاء به الشرع إن كانت تتعلق بالأحكام والعبادات، فإن خالفت الشرع فليس ما رآه هو النبي -عليه عليه السلام - وإنما هي تلبيس على صاحبها، وأن صاحبها لم ير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما خيل له وظن أنه الرسول وليس هو الرسول؛ لأن شرعه قد كمل ولا يتغير بعد موته – صلى الله عليه وسلم – بل إن تبليغه للرسالة قد انقطع بموته – صلى الله عليه وسلم – بعد أن بلغها، وأدى الأمانة فيها، ونصح أمته، و جاهد في الله حق جهاده، فما مات – صلى الله عليه وسلم – إلا وقد دل أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم من شر ما يعلمه لهم، كما جاء في مسند أحمد (6487) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فخطبنا فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا دَلَّ أمته على ما يعلمه خيراً لهم، ويحذرهم ما يعلمه شراً لهم» الحديث.
وقد سئل سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله – هذا السؤال في مجموع فتاوي الشيخ (2/ 385):
«السؤال: يقول كثير من علمائنا أنه من الممكن أن نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وأن رؤيته في المنام حقيقة ; لأن الشياطين لا يستطيعون أن يتمثلوا بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وهل مثل هذه العقيدة شرك أم لا؟
الجواب: هذا القول حق وهو من عقيدة المسلمين، وليس فيه شرك؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» متفق على صحته. فهذا الحديث الصحيح , يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يرى في النوم , وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة فقد رآه , فإن الشيطان لا يتمثل في صورته , ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين , ولا يجوز أن يعتمد عليها في شيء يخالف ما علم من الشرع , بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوامر، أو نواهي، أو خبر، أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرائي للرسول - صلى الله عليه وسلم - على الكتاب والسنة الصحيحة , فما وافقهما أو أحدهما قبل , وما خالفهما أو أحدهما ترك ; لأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلا يجوز أن يقبل من أحد من الناس ما يخالف ما علم من شرع الله ودينه سواء كان ذلك من طريق الرؤيا أو غيرها، وهذا محل إجماع بين أهل العلم المعتد بهم , أما من رآه - عليه الصلاة والسلام - على غير صورته فإن رؤياه تكونكاذبة كأن يراه أمرد لا لحية له , أو يراه أسود اللون أو ما أشبه ذلك من الصفات المخالفة لصفته - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» فدل ذلك على أن الشيطان قد يتمثل في غير صورته - عليه الصلاة والسلام - ويدعي أنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل إضلال الناس والتلبيس عليهم.
ثم ليس كل من ادعى رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يكون صادقاً وإنما تقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه , وقد رآه في حياته - صلى الله عليه وسلم - أقوام كثيرون فلم يسلموا ولم ينتفعوا برؤيته كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وغيرهم , فرؤيته في النوم - عليه الصلاة والسلام - من باب أولى».
¥