-قال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم.
-قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، والتشهد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، ووجوه الفتيا، وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخير وسعة وتخفيف من المحنة فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يخطئ من أذن مثنى وأقام فرادى، ولا يتعايرون بذلك ولا يتعايبون، والاختلاف الآخر كنحو اختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والانجيل متفقا على تأويله كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات: وينبغي أن ترجع الى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج الى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل وليس على هذا بنى الله الدنيا.
-قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن المسيح عبد، وأن محمدا صادق وأنك أمير المؤمنين حقا. [17.
إنه من الأهمية بمكان بالنسبة لمسلمي اليوم أن يوقنوا أنهم لن يستطيعوا رفع الخلاف بإطلاق إلا إذا غيروا طبيعة الانسان، وهذا غيرممكن، إذ لا تكليف إلا بمقدور، والذي على المسلمين اليوم هو أن يعرفوا كيف يختلفوا ما دام الاختلاف أمرا مقضيا وأن يعرفوا كيف يتوافقوا.
إن الاسلام علم ويعلم أتباعه كيف يختلفون، كما لقنهم ويلقنهم الأصول التي عليها يجتمعون، وأتى بضوابطه المنهجية الأخلاقية التي على المسلمين الالتزام بها لمواجهة الاختلاف.
ولعل من أهم الضوابط المعينة على التعايش مع الاختلاف؛ الرجوع الى الهيئات المتخصصة في الأمور المختلف فيها واعتماد الرأي الأغلب الذي ينضبط له الجميع، واعتماد الجدال بالتي هي أحسن، وهذا يقتضي استخدام الكلمة المسؤولة استخداما أمينا، مع جمال التعبير والعرض، والتذرع بأخلاق أهل الايمان التي تنفر من الحقد والوقيعة وسوء الظن والجهر بالسوء والحوار المنصف.
ومما يتعين أيضا لمواجهة الاختلاف تحديد الأصول والفروع، وتقريرالأولويات فلا يؤدي التنازع على الجزئيات إلى إهدار الكليات وإغفالها.
فكثيرة هي النوافل المختلف فيها مع الأسف تسبب في ضياع فرائض وواجبات متفق عليها بل قد يحصل المحظور، فعلى المسلمين أن لا ينسوا أن ما يجمعهم أكبر وأكثر وأجل مما يفرقهم، ويستحضروا دائما أن ما ينتظرهم كثير، وأن كرامتهم لا تتحقق باختلافهم بقدر ما تتحقق بتآزرهم.
فأعداء المسلمين أينما وجدوا لن يندحروا- سواء كانوا أعداء ماديين" أعداء الحرية والسلم والسلام " أم معنويين " كالجهل والأمية والظلم وغير ذلك"- إلا إذا وضع المسلمون اليد في اليد، وفتحوا القلب على القلب، ولن يتم ذلك إلا بالقضاء على الفرقة والاختلاف والشتات الذي يمزق كيان الأمة.
يكفي أن يُعرف هذا ليحرص الجميع على أن يأخذ الاختلاف حجمه الصحيح، فلا يتجاهله ولا يلغيه، ولا يسمح له في نفس الوقت أن يتضخم ويتفاقم كأنه أصل الأصول وقضية القضايا.
فهل بهذا الفهم نستطيع القول لا للاختلاف ونعم للتراحم، أو أن الأمر أكبر من نفوسنا، وأن السوء قد طغى علينا، وأصبحت أنفسنا هي القائدة ونحن المقودون؟.
د/ أحمد العمراني
الجديدة -المغرب-
[1] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref1) - مسند احمد 11148/و11120/و11229، ومسلم في فضائل الصحابة، والدارمي في فضائل القرآن 2/ 432.
[2] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref2)- صحيح مسلم رقم:3009، وسنن ابن ماجه رقم:3076، والمتنتقى لابن الجارود:2/ 125/وصحيح ابن حبان:1456/و3943، والطبراني في الكبير:3/ 66، وصحيح ابن خزيمة:5/ 255.
[3] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref3) - سنن الترمذي: 3802.
[4] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=2#_ftnref4) - سنن الدارقطني:4/ 245.
[/ URL]-[5] الاعتصام للشاطبي:2/ 232.
¥