وهناك وجه الإعجاز الآخر وهو إعجاز هداية القرآن وإصلاحه في المجتمع، قال الزرقاني: أن القرآن الكريم جاء بهدايات تامة كاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاءً لا تظفر به في أي تشريع ولا في أي دين آخر، فقد أصلح القرآ في العقائد، والعبادات والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والنسائي بحماية المرأة، والحرب، محاربة الاسترقاق في المستقبل وتحرير الرقيق الموجود بطرق شتى ([8] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_edn8)).
وليس هناك تعارض وتناقض بين تلك الوجوه، فإنها موجودة ومجتمعة كلها في ذلك القرآن العظيم الذي لا ينقضي عجائبه، فلا داعي لأن ندّعي أن وجه هدايته المعجزة هو أعظم وجوه إعجازه، بل يرى العلماء أن أعظم وجوه إعجازه إعجاز لغويّ، حيث إن كل رسول إنما جاء بمعجزة من جنس ما شاع في قومه، فأرسل موسى عليه السلام بالعصا في أمة شاع بينهم السحر والسحرة، وأرسل عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في قوم عُرفوا بالطبّ.
وربما قيل: إن القرآن ما دام يستخدم اللغة العربية فهو منتج بشري، لأن اللغة نتاج البشر، فلا يكون القرآن معجزة. أجاب عن هذا القيل والقال د. محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم، وخلاصة ذلك الجواب أن القرآن وإن كان لا يخرج عن اللغة العربية، إلا أن مثله كمثل المهندسين البنائين الذين لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولم يخرجوا عن قواعد الصناعة العامة، ولكن يكون بعضهم أتقن وأبدع وتفوق على الآخرين، فكذلك أهل اللغة العربية، فمنهم بليغ أدّى الغرض الواحد على طرائق شتى، يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاععهم بخارجٍ عن موادّ اللغة وقواعدها في الجملة، ولكن حسن الإختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام إلى الذروة العليا وقد ينزل به إلى الدرجة السفلى. وهذا القرآن قد بلغ في الحسن والبلاغة والفصاحة حدا يعجر عن الإتيان بمثله جميع الخلق. ولكن لا يدرك ذلك إلا من هو أهله من أرباب اللغة والبلاغة، مثل الوليد بن المغيرة وغيره الذين يشهدون بذلك مع ما يعرف من عدواتهم للإسلام والقرآن، أما الذين ليسوا من أهله بأن لم يفرّق بين كلام عربي وكلام عربي أخر، فتلك الشهادة من أهله يكفى أن تكون شهادة لهم. ([9] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_edn9))
فهل إذا ثبت أنه معجز يجوز أن يقال إنه منتَجٌ بشريّ أو منتج ثقافي، كلا، فإن معنى كونه منتج البشر أنه من وضعه أو من صناعته، وقد ثبت أن جميع البشر والخلق عجزوا عن الإتيان بكلام يماثل القرآن، ولا سيما أن يأتوا بذلك القرآن نفسه، لأن من عجز أن يأتي بمثل الشيء فهو أعجز عن الإتيان بذلك الشيء نفسه.
هذا كله إذا سلمنا أن اللغة العربية منتجٌ بشريّ وأنها اصطلاح على المواضعة، كما هو رأي معظم العلماء المتأخرين، فكيف إذا جرينا على رأي يقول بأن اللغة العربية توقيفية إلهية منذ آدم عليه السلام حينما علمه الله الأسماء كلها كما هو رأي بعض العلماء المتقدمين انطلاقا من قوله تعالى ?وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا? [البقرة: 21] كما قاله أبو الحسن الأشعري وابن فورك وغيرهما.
فإذا كان القرآن معجزة وكان أعظم وجوه إعجازه وجها لغويا، فمعرفة اللغة العربية بجميع نواحيها النحوية والصرفية والبلاغية وأساليبها المتنوعة في عصورها المختلفة بداية من عصر ما قبل الإسلام فعصر النبوة والرسالة فالأموية والعباسية إلى عصرنا الحاضر ضرورةٌ من ضرورة الدين الإسلامي.
ــــ
[1] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref1) إعجاز القرآن، أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (القاهرة، دار المعارف، 1997م) ط 5، تحقيق: السيد أحمد صقر، ص 17.
[2] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref2) المصدر السابق، ص 35.
[3] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref3) المحرر الوجيز، ج 2، ص 52.
[4] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref4) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي أبي الفضل عياض اليحصبي 544 هـ (بيروت، دار الفكر، 1409 هـ - 1988 م) ج 1، ص 264.
[5] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref5) هكذا في المطبوع، ولعل الصواب "لا يمكن" بالنفي، والله أعلم.
[6] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref6) التحرير والتنوير، ج1، ص 104 ..
[7] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref7) مناهل العرفان، ج 2، ص 247.
[8] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref8) مناهل العرفان، ج 2، ص 253 - 254.
[9] ( http://tafsir.net/vb/showthread.php?p=116797#_ednref9) النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز (كويت، دار القلم، 1996م) ط 8، ص 90 – 93.
¥