ومن خلال استعراضنا لأقوال المفسرين حول آية "الهمّ" نرى ما فيها من تجاوزات لا تليق في حق نبي معصوم من أنبياء الله، وأن هؤلاء المفسرين أو من دسوا عليهم في تفاسيرهم، ومن ساروا على نهجهم من الدعاة المعاصرين، قد غاب عن أذهانهم التحليل الدقيق لسياق القصة الواردة في القرآن، بدءا من المراودة وحتى شهادة امرأة العزيز والنسوة وتبرئة ساحة يوسف أمام الملك وخروجه من السجن وتربعه على عرش مصر كوزير للمالية.
فالسياق يؤكد أن يوسف عليه السلام كان ثابتا في موقفه من البداية، السوء والفحشاء تحاولان الاقتراب منه وهو يستعصم بربه ويبتعد، ثم يهرب من امرأة العزيز مستبقا الباب بعد أن عزمت على أن تجبره بالقسر والإكراه، فهي تتسابق معه لترده الى نفسها، وهو يهرب منها، ثم يشهد له الغلام الصغير قريب امرأة العزيز، ولو كان يوسف قد همّ بها همّ فاحشة، وجلس منها كما يجلس الرجل من امرأته - كما ذكر بعض المفسرين - لم الاستباق اذن؟ ولم قد القميص؟، وعندما يعلم النسوة ويشيع الخبر وتجمعهم امرأة العزيز وينبهرن برؤية يوسف ويراودنه عن نفسه، تعترف امرأة العزيز أمامهن بأنها هي التي راودته عن نفسه وأنه قد استعصم، ثم نجد ثبات موقفة واستعصامه بربه لدرجة أنة يفضل السجن على اقتراف الفاحشة.
nقوة الداعي وزوال المانع
ولا شك أن هذا الموقف الذي وضع فيه نبي الله يوسف كان ابتلاء كبيرا له، ولكنه نجح في الاختبار وواجه الابتلاء بإيمان قوي وعزيمة صلبة، رغم قوة الداعي وزوال المانع لارتكاب الفعل الذي دعي إليه وتهيأت له كل أسبابه، وفي ذلك يقول الأمام ابن القيم: (1)
"اخبر الله سبحانه وتعالي في القران الكريم عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار اليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه الا من صبّره الله، فان مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوه وذلك من وجوه:
- إحداها ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله ألي المرأة، كما يميل العطشان الي الماء والجائع الي الطعام حتى أن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا بل يحمد، كما في كتاب الزهد للامام احمد من حديث يوسف بن عطية الصفار عن ثابت البناني عن انس عن النبي – صلي الله عليه وسلم – "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب اصبر عن الطعام والشراب ولا اصبر عنهن".
- الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشاب وحدته أقوى.
- الثالث: أنه كان عزبا ليس له زوجة ولا سرية تكسر قوة الشهوة.
- الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه بين أهله ومعارفه.
- الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو الى مواقعتها.
- السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية، فان كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها، لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها.
- السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة اليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب اليه.
- الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى ان لم يطاوعها من أذاها، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
- التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء.
- العاشر: أنه كان في الظاهر مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملك على الزنى؟ قالت: قرب الوساد وطول السرار، تعني قرب وساد الرجل من وسادتها، وطول السرار بينهما.
- الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته اياهن وشكت حالها اليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال "والا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين" يوسف / 33.
- الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن ووقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
¥