? اختلاف المعتزلة على النظام وشدّة معارضتهم له: وممّا يدل على أن نظرية الصرفة لم تكن نتاج بعض الأفكار الاعتزالية المبنية على نفي صفات الله عزّ وجلّ (التوحيد) هو اختلاف المعتزلة على النظام بل من أوّل واشدّ من انتقد هذه النظرية أصحابه وعلى رأسهم تلميذه الجاحظ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره ولعل هذه الشدّة من المعتزلة في انتقاد النظام ونظرية الصرفة سببها محاولتهم التنصل منها حتى لا تنسب إليهم ويرمون بها. وفي هذا المعنى يقول الدكتور سامي عطا حسن: " ... انّ عدم اتفاقهم ـ يعني المعتزلة ـ على مفهوم واحد لنظرية الصرفة يدل على أنها لم تصدر عن عقيدتهم في كلام الله وفي خلق القرآن لذا أميل على ما ذكره كل من البيروني والبغدادي والشهرستاني من أقوال ... تبين مصدرها الخارجي ... "
2. الأصل الإعتزالي لنظرية الصرفة:
أوّلا من الناحية العملية: عُرف المعتزلة ــ في أوّل لقاء وتصادم بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم ــ بأنّهم حملة لواء الدفاع عن الدين والذوذ عن الكتاب المبين وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم فهم الذين واجهوا الملحدين والدهريين والمشككين وضحدوا الشبهات والنظريات الوافدة من خارج دولة الإسلام سواء منها خرفات وهرقطة فلسفة الهند واليونان أو تحريفات وتضليلات اليهود والنصارى
ونظرية الصرفة ما هي إلاّ حلقة في سلسلة ردودهم على المشككين في معجزة القرآن الكريم وكونه كلام الله تعالى الموحى به إلى خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم
وفي هذا السياق يقول الدكتور أحمد أبو زيد " ... فإيراد قضية إعجاز القرآن في سياق هذا البحث المتعلق بالصرفة , وفي معرض الرد على الدهريين يفيد بأنّ هذه النظرية إنما وُضعت للدفاع عن القرآن وتنزيهه عن مطاعن الملحدين ... "
ثانيا من الناحية العلمية: هذا من الجهة العملية التطبيقية أمّا من الجهة العلمية النظرية فإنّ الاعتزال قائم على أصول ستة لعلّ أوّلها وأهمها ما يصطلحون عليه بالتوحيد وحقيقته وأساسه نفي الصفات عن الله عزّ وجلّ
وما القول بنظرية الصرفة إلاّ انعكاسا لهذا الأصل إذ منطلقها نفي الكلام عن الله عزّ وجلّ ... فلفظ القرآن خلقه الله سبحانه وتعالى وليس هو من صفاته ... لأنّ القول بأنه صفة من صفاته يقتضي بالضرورة مغايرته لكلام البشر في لفظه ومعناه وفي أسلوبه ومحتواه ... وبالتالي إعجازه من جهة ذاته .... لهذا السبب لجأ المعتزلة إلى إثبات إعجازه خارج لفظه واهتدوا إلى نظرية الصرفة
وإلى بيان هذه الفكرة أشار الدكتور محمد زغلول سلام في سياق ذكره أصول هذه النظرية ــ وهي عنده أصلين اثنين هذا أحدها ــ يقول: " ... إنّ هذا الرأي يبدو أنه صادر عن عقيدتين في نفس الرجل: الأولى:عقيدته في التوحيد والعدل على مذهب المعتزلة ونفي صفات الله عن ذاته ومن ثم فلا كلام لله في الشكل اللفظي المعهود من الخلق وإنما كلام الله وحي وإلقاء في الروع .... "
3. منهج النظّام في الاستدلال والاستنباط أصل نظرية الصرفة:
و هو الأصل الثاني الذي ذكره د. محمد زغلول سلاّم في كتابه أثر القرآن في النقد العربي وتمام كلامه الذي سبق ذكر بعضه:" ... الثانية: مذهبه القياسي التجريبي الطبيعي في التفكير , وتزمته في تطبيقه على القرآن وبيانه " اهـ
وقصد الدكتور بهذا المنهج أنّ النظّام كان يظنّ الظنّ ويعتقده حتى يصير عنده قطعيا ويقينيا سواء استقاه من مجرد تخمينه وتفكيره أو من كلام الفلاسفة الهنود أو اليونان ثم ينطلق منه يقيس عليه ويحكم به وكأنه أصلٌ ميلّمٌ لا جدال فيه ولا نقاش ...
ولعل أشهر من فضح منهجه هذا وانتقده تلميذه وأعرف الناس به الجاحظ حيث يقول في كتابه الحيوان:"إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء الظنّ وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل, الذي قاس عليه , كان أمره على الخلاف , ولكنه كان يظنّ الظنّ , ثم يقيس عليه , وينسى أن بدء أمره كان ظنا , فإذا أتقن ذلك , وأيقن , جزم عليه , وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه , ولكنه كان لا يقول: سمعت زلا رأيت , وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة , فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه أو معاينة قد بهرته ... " اهـ
¥