والثاني: -أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا، فإذا جمعها القرآن، وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز)
? إمام الحرمين الجويني (478هـ) يقول في العقيدة النظامية: (وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن، وتقطعوا فيه أيادي سبأ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة، خارج عن المعتاد في ذلك، ثم زعم زاعمون: أن إعجازه في شرف جزالته، وذهب آخرون: إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر، والخطب، والأراجيز، ثم يقول: - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء،واللسن الفصحاء، فقد حاد عن مدرك الحق) ثم يقرر ويقول: (فتبين قطعا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدا وتأييدا.)
إلى أن يقول: (فإذا لم تجر المعارضة، لم يبق لامتناعها، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة، وشفاء الصدور في الحكم؟ فإن مثله من مقدورات الخلق، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم)
? أبو حامد الغزالي (505هـ) الذي يقول في باب المحاجاة: (فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن، ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به، والجواب: - إن ما ذكروه هوس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي، وشن الغارات، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات.)
القائلون بها من الشيعة الإمامية: وهم حملة لواء القول بالصرفة في العصور المتأخرة خاصة وأنهم ورثة الفكر الاعتزالي
? الشيخ المفيد (338هـ) قال في جهة إعجاز القرآن: ("إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان. وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال ... )
? علي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (355هـ) نقل عنه الطوسي قوله: - (إن الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن، متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم)
? نصر الدين الطوسي (385هـ) قال بها في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام) وهو شرح لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد)
? ابن سنان الخفاجي (466هـ) يقول في كتابه سرّ الفصاحة: (إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك ... ) و يقول أيضا: (إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف ... ) و في موضع آخر: (متى رجع الانسان الى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه …!!)
الصرفة عند الجاحظ:
يعترف الجاحظ بإعجاز القرآن من حيث نظمه فلا قدرة للعرب على إجابة التحدي الرباني بمعارضته والإتيان بمثله ولكن ذلك لم يمنعه من القول بالصرفة كذلك حتى يحفظ القرآن من عبث العابثين وتشكيك المشككين
¥