يقول الجاحظ: (ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحداهم بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك، فجاء بأمر فيه أدنى شبهة، لعظمت القضية على الأعراب، وأشباه الأعراب، والنساء، وأشباه النساء، ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب، ولكثر القيل والقال)
ويقول أيضا: (وذكرنا من صرف أوهام العرب عن محاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطربا، ولا ملفقا، ولا مستكرها، إذ كان في ذلك لأهل الشغب متعلق) فلا تعارض بين الصرفة وبين إعجاز القرآن بنظمه عند الجاحظ فالتحدي عنده واقع بنظم القرآن وما الصرفة إلاّ تدبير رباني حفظ به الله تعالى كتابه المعجز عن تلاعب السفهاء وعن الأخذ فيه والعطاء الذي من شأنه أن يُذهب هبته وينزل من قدره وعظمته يقول الدكتور سامي عطا حسن مبينا الفرق بين نظرية الصرفة عند كلّ من النظام والجاحظ: (فهناك فرق بين مفهومي النظام، والجاحظ للصرفة، فالنظام: يرى قدرة المنشئين على أن ينظموا مثل القرآن، والإعجاز في صرف الله لهم عن هذا الصنيع. أما الجاحظ: فلم يستعمل الصرفة بمفهومها النظامي الذي سبق أن أنكره عليه، وإنما استعملها بمفهوم آخر، لا يتنافى والقول بإعجاز القرآن بالنظم. فانصراف العرب عن معارضة القرآن، إنما وقع بعد أن تحداهم الرسول
_ صلى الله عليه وسلم – - بنظمه، وهي لذلك ليست تعني أن الله أحدث فيهم منعا، وعجزا، وإنما تعني أن له تعالى تدبيرا، حفظ به القرآن من شغب المعاندين، فصرف أوهامهم ونفوسهم، عن كل محاولة لمعارضة القرآن، لما قد يدخل بذلك من الشبه على ضعاف العقول، ولما قد ينشأ عنه من الفتنة.)
الانصراف بدل الصرفة عند القاضي عبد الجبار:
هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني قاضي القضاة شيخ المعتزلة في زمانه توفي سنة 415 هـ
انتقد أصحابه القائلين بالصرفة أشدّ الانتقاد معتبرا هذه النظرية تطعن في القرآن الكريم من حيث بلاغته المعجزة ومن حيث ثبوته أو ثبوت بعض آياته ثم من حيث مزيته وخصيته يقول عليه رحمة الله معددا أوجه انتقاده لنظرية الصرفة:
(أولا:- لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح، أو قول بليغ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم، لما أمكنهم الكلام المعتاد، ولكن القوم ظلوا يتكلمون، ويأتون بالقول الفني الممتاز، ولم ينحدر مستوى بيانهم، أو يهبط، ولكنه كان - على علوه -، لا يرقى الى مستوى القرآن.
ثانيا: - ولو ثبت هذا المنع، لكان في حد ذاته هو المعجز، وليس القرآن، فإن من سلك هذا المسلك في القرآن، يلزمه أن لا يجعل له مزية ألبتة.
ثالثا: - ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره، لبطل بعض القرآن، ولما كان صحيحا قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) ...
رابعا: - القول بالصرفة يتعارض مع الآية السابقة، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء: إن بعضها يكون ظهيرا لبعض، لأن المعاونة، والمظاهرة،إنما تمكن مع القدرة، ولا تصح مع العجز، والمنع.)
ولكنّه لجأ إلى نظرية أخرى أو نظرة مقاربة ليحاول تبرير عدم محاولة العرب معارضة القرآن فهو يقول في هذا الصدد: (أن دواعيهم انصرفت عن المعارضة، لعلمهم بأنها غير ممكنة، على ما دللنا عليه، ولولا علمهم بذلك، لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة .. ) ويقول أيضا: (فالصحيح ما قلناه، من أنهم علموا بالعادة تعذر مثله، فصار علمهم صرفا عن المعارضة.) فالمانع من المعارضة عند القاضي عبد الجبار لم يعد خارجيا كما كان عند النظام وأصحابه بل هو صارف داخلي وهو يشبه الشعور باليأس عند المتحدين من إمكانية الإتيان بمثله .... ولهذا اصطلحنا عليه بالانصراف لا الصرفة ...
الصرفة عند الأشاعرة:
اجتهاد الأشاعرة في حديثهم عن البلاغة والإعجاز ابتداء من القرن الخامس الهجري كان عبارة عن ردّة فعل لاشتغال واختصاص المعتزلة بهاتين القضيتين
¥