المعارضات البشرية الناقصة وبين كلام الله عزّ وجلّ البديع الكامل المعجز , فهذه المعارضات ــ مهما قيل ــ شبيهة تمام المشابهة بسجع الكهان الذي كان منتشرا في جاهلية العرب كقول سَلِمة بن أبي حَيّة المعروف بعزّى سَلِمة وهو كما قال الجاحظ أكهن العرب وأسجعهم: (والأرض والسماء , والعقاب والصقعاء , واقعة ببقعاء , لقد نفّر المجدُ بني العُشَراء للمجد والسناء ... ) ومنه قول زبراء كاهنة بني رِئام تنذرهم غارة (واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق إنّ شجر الوادي ليأدو خَتلا ويحرِق أنيابا عُصْلا , وإنّ صخر الطّود ليُنذِر ثُكلا , لا تجدون عنه مَعْلا ... ) ولا فرق بين هذا الكلام ومعارضات مسيلمة وغيره من العرب القدماء من حيث بناؤه وتركيبه ومن حيث سجعُه وغريبُ لفظه ... إلاّ فيما يشعر به القارئ وهو يردّد كلاّ منهما فإذا كان الأثر الذي يتركه سجع الكهان هو الاستغراب وربّما الاستطراف أحيانا والاستعذاب فإنّ كلام مسيلمة وهو بنفس الطريقة والأسلوب يترك هذا الشعور بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...
وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته
فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول:
لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا
ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى:
ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ
وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ
ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله؟) ومن رائق شعره قوله:
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا
دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا
ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية: (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ... ) ومن شعره
في الذاهبين الأوّلـ ينَ من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر
ولورقة بن نوفل قوله:
لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته؟ أبدا لن تدرك ذلك!!! ولم يقل أحد بذلك!!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر ... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...
ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم
¥