أما الإشكال الحقيقي الوارد على هذه الأحاديث أنها مروية عن عبد الله بن عمرو، وعن أبيه عمرو بن العاص، فقد يقال بأنهما رويا جميعاً الحديث، وهذا واردٌ، ولكن يُعكر على هذه النتيجة ما ورد في بعض الروايات من إثبات صيغة السؤال نفسها ونسبتها مرة إلى عبد الله بن عمرو، ومرة إلى أبيه، مما يُشعر أن إحدى الروايتين وهمٌ، ويزداد هذا الاحتمال عندما ننظر إلى رواية البخاري في خلق أفعال العباد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص، مع الرواية الثانية من طريق علي بن مُسهر، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن عمرو بن العاص، فالملاحظ أن كلتا الروايتين من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، لكن إحداهما نسبت القول إلى عمرو بن العاص، والأخرى نسبته إلى عبد الله بن عمرو، مما يؤكد وجود الوهم، وأظن أن الوهم حاصل من محمد بن عمرو، والحكم على الأحاديث المختلفة بالوهم خير من التماس وجوه الجمع المتكلفة، والله أعلم.
لذا أرى والله أعلم أن الرواية الأولى وهي رواية عبد الله بن عمرو أصح من غيرها، وهي المعتمدة إن شاء الله.
ثانياً: التوجيه:
بناءً على ما مرَّ من تخريج حديث جئتكم بالذبح، يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
أولاً- إن الحديث ليس عاماً بأي حالٍ من الأحوال، لأن صيغه كلها مصدرة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش))، فهذه الصِّيغ ابتداء تنفي حمله على العموم المطلق، كما يذهب إلى ذلك من أراد أن يذهب.
ثانياً – ولا نستطيع أيضاً أن نحمله على العموم المقيد، أي أن الحديث عاماً في قريش، فالوعيد يكون ثابت في حقهم جميعاً، وذلك للأسباب التالية:
1 - إنه ثبت يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث بالذبح لا إلى قريش ولا إلى غيرها، بل إن محكم القرآن وصحيح السنة يقفان بوجه من يفسر خلاف ذلك، إذ إن الله تعالى قال: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))، وذكر الطبري آراء المفسرين في هذه الآية، على أن المراد بها رحمة للمسلمين فحسب، أم رحمة للناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم، وما إلى ترجيح رأي ترجان القرآن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للناس جميعهم كافرهم ومؤمنهم.
وهذا يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا رحمة مهداة))، وكذا سلوكه صلى الله عليه وسلم الذي يتناقض مع فكرة الذبح، كعدم تعجله العذاب لقومه، والدعاء بالهداية لهم، وعدم الدعاء عليهم.
2 - ما ثبت كونه كان أشد رحمة على قريش من رحمته على من سواها، بدليل ما حصل يوم فتح مكة، من قوله صلى الله عليه وسلم لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، ومن قوله صلى الله لأصحابه ((لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً)).
3 - أنه عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات الكرب والشدة عندما رجع من الطائف على الحالة التي رجع فيها، وجاءه ملك الجبال منتظراً إشارة منه صلى الله عليه وسلم ليُطبق عليهم الأخشبين قال: بل أرجو الله إن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، فلو كان أُرس لقريش بالذبح لكانت هذه فرصة سانحة، بل ومؤيدة، ولكنه لم يفعل لتعارض هذا مع أصل رسالته صلى الله عليه وسلم.
4 – كان كثيراً ما يردد: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) برغم إيذائهم له، فلو كان أرسل لهم جميعاً بالذبح لدعا عليهم لا لهم.
ثالثاً – إن المدقق في الحديث يرى أنه خاص بأشخاص بأعيانهم، ولسنا بحاجة إلا لقليل من التدبر لنعرف هذا، وهذا نراه في الروايات الأخرى، بل في هذه الروايات التي تم الاستشهاد بها كما في الرواية الثانية عندما قال له أبو جهل بعدما أخذته الرعدة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما كنت جهولاً؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم)، أي: أنت ممن يُذبح، مما يدل على أنه خاص بأناس محددين معروفين.
¥