صليت في مسجد بني غفار، فلما جلست في صلاتي افترشت فخذي اليسرى ونصبت السبابة. قال: فرآني خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري - وكانت له صحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأنا أصنع ذلك. فلما انصرفت من صلاتي قال لي: أي بني! لم نصبت أصبعك هكذا؟ قال: وما تنكر؟! رأيت الناس يفعلون ذلك. قال: فإنك أصبت؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى يصنع ذلك، فكان المشركون يقولون: إنما يصنع هذا محمد بإصبعه يسحر بها! وكذبوا؛ إنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك يوحِّد ربَّه عز وجل
رابعاً: قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عمران بن أبي أنس عن مقسم عن خُفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري قال:
«كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في آخر صلاته يشير بإصبعه السبابة ن وكان المشركون يقولون: يسحر بها! وكذبوا؛ ولكنه التوحيد».
أخرجه الطبراني (4/ 257 / 4176).
قلت: فهذا اختلاف شديد على ابن إسحاق إسناداً ومتناً.
1 - فتارة يجعله من مسند ابن مسعود، وتارة من مسند خُفاف بن إيماء.
2 - وتارة يذكر فيه التورك في التشهد الأوسط، وتارة لا يذكره.
3 - وتارة يذكر فيه النهوض فور فراغه من التشهد؛ خلاف رواياته الأخرى.
و إن مما لاشك فيه أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق نفسه، وليس من الرواة عنه؛ فإنهم ثقات جميعاً، وبخاصة - منهم - إبراهيم بن سعد الزهري - والد يعقوب -؛ فإنه ثقة حجة؛ كما في «التقريب»، وقد رواه عنه مرة عن ابن مسعود، و اخرى عن خُفاف، كما تقدم.
و هذا مما يؤيد ما ختم الذهبي ترجمته بقوله:
فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئاً، واحتج به أئمة».
و قوله: «وما انفرد به. . .» إلخ؛ إنما يعني مخالفاً فيه غيره، ممن هو أوثق منه أو أكثر عدداً.
قلت: ولقد بلوت هذه المخالفة من ابن إسحاق في كثير من الأحاديث منذ القديم، وكلما مضى الزمن ازددت يقيناً بهذه الحقيقة التي لم ينتبه لها إلا القليل من المشتغلين بهذا العلم الشريف.
وإن مما يؤكد لك هذه الحقيقة في هذا الحديث: أن تشهد ابن مسعود الذي تلقاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة - ومفه بين كفيه - صلى الله عليه وسلم - - قد جاء من طرق كثيرة عنه، ليس في شيء منها ذكر التورك في التشهد الأوسط، و لا النهوض حين يفرغ منه.
وقد ساق الكثير الطيب منها الطبراني في «معجمه الكبير» (10/ 48 - 68)، و بعضها في «الصحيحين» وغيرهما، و هو مخرج في «إرواء الغليل» (2/ 26)، و «صحيح أبي داود» (889 - 891).
بل إن في بعضها ما ينافي النهوض المذكور، وهو قوله في رواية شقيق عن ابن مسعود في آخر التشهد مرفوعاً:
«ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به».
متفق عليه، (صحيح أبي داود 889).
و ليس هذا خاصاً بالتشهد الأخير كما يضن البعض؛ بل هو بإطلاقه يشمل التشهد الأول أيضاً؛ بل إن هذا قد جاء صريحاً في رواية أبي إسحاق عن الأسود ابن يزيد - والد عبد الرحمان شيخ ابن إسحاق! - عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ:
«إذا جلستم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله. . .» إلخ «ثم يتخير. . .» إلخ.
أخرجه الطبراني (9888، 9914) من طريق الثوري ويوسف بن أبي إسحاق؛ كلاهما عن الأسود قرنا به أبا الأحوص. زاد يوسف: و عمرو بن ميمون وأصحاب عبد الله: أنهم سمعوه يقول:. . . فذكره.
و صرح يوسف بإخبار هؤلاء لأبي إسحاق - وهو السَّبيعي -، فانتفت شبهة تدليسه.
و الثوري سمع من السبيعي قديماَ، فانتفت شبهة اختلاطه.
فصح الإسناد والحمد لله.
على أنه قد تابعه شعبة قال: حدثنا أبو إسحاق: سمع أبا الأحوص قال: قال عبد الله:. . . فذكره.
أخرجه الطيالسي في «مسنده» (39/ 303)، وكذا أحمد (1/ 437) وابن خزيمة في «صحيحه» (1/ 356 / 720).
و إسنادهم صحيح على شرط مسلم.
و رواه الطبراني (9918) من طريق مرداذ بن جميل: حدثنا محمد بن مناذر: ثنا شعبة به؛ إلا أنه أدخل بين أبي الأحوص وابن مسعود أبا الكنود.
«لكن ابن مناذر هذا؛ قال الذهبي في الضعفاء عن ابن معين»:
«لا يروي عنه من فيه خير».
¥