ومعلوم أنّه ليس المراد الحفظ لديه تعالى، فانّه يتعالى من أن يوصف بالغفلة أو النسيان فعرفنا أنّ المراد الحفظ لدينا، وقد ثبت أنّه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه، لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه، فيؤدّي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء ممّا ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف. وأيّ قول أقبح من هذا؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كلّه مخالفاً لشريعة رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأن نسخ اللّه ذلك بعده، وألف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته.
فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر اللّه تعالى أنّه هو الحافظ لما أنزله على رسوله، وبه يتبيّن انّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصحّ شيء منها.
قال: وحديث عائشة لا يكاد يصحّ، لأنّه (أي الراوي) قال في ذلك الحديث:
وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فدخل داجن البيت فأكله. ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أُخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث. " اهـ أُصول السرخسي: 2/ 78 ـ 80.
ــ والتشريع الإسلامي في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بمراحل عدة حتى وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن ذلك وقوع النسخ لبعض الأحكام والآيات، والنسخ عرفه العلماء بأنه: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر.
ولم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ، ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود فأنكروا جواز النسخ عقلاً، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى عليه السلام، وأثاروا الشبهة، فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى لأنه يدل على ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم، وهذا محال في حق الله تعالى.
ــ والقرآن الكريم رد على هؤلاء وأمثالهم في شأن النسخ رداً صريحاً، لا يقبل نوعاً من أنواع التأويل السائغ لغة وعقلاً، وذلك في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة:106 فبين سبحانه أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) ثم عقب فقال: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير*ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)
والنسخ ثلاثة اقسام:
الأول: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ومثاله آية الرجم وهي (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة .. (هذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
الثاني: نسخ الحكم والتلاوة معاً: ومثاله قول عائشة1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - رضي الله عنها: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات يحرمن) فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، وحكمهاباق عند الشافعية.
- قال الإمام القرطبي:
"وروى زر قال قال لي أبي بن كعب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: كم تعدون سورة الأحزاب؟
قلت ثلاثا وسبعين آية، قال: فو الذي يحلف به أبي بن كعب1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض. " اهـ تفسير القرطبي ج 14 ص 113
ــ قال ابن حزم رحمه الله تعالى: فصح نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة رضي الله عنها فأكلها الداجن، ولا حاجة إليها .. إلى أن قال: وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم وبالله التوفيق.
¥