إن قلنا بالتقديرِ الذي ذكرتِ، - هذا على التسليمِ بأن " طبعًا " لا تُستعمَلُ في غيرِ هذا السياقِ، ولا نسلّمُ بهِ -، فإن " طبعًا " تُعرَبُ مفعولاً مطلَقًا مؤكّدًا للجملةِ قبلَه؛ نحو: (هذا صاحبي صدقًا). وهذا في رأيي غيرُ سائغٍ، لأن " الطبعَ " في نحوِ جوابِ (هل العربُ كرماءُ؟) تقديرُه (طُبعَ هذا الكلامُ طبعًا) بالبناءِ للمجهولِ، لا (طَبعَ) بالبناءِ للمعلوم. وهذا مخالِفٌ لنحو: (هذا صاحبي صدقًا)؛ إذْ تقديرُه: (صدقَ هذا الكلامُ صِدقًا) بالبناءِ للمعلومِ. فإنِ احتججتَ بالسماعِ على ذلكَ، قلنا: لا نعرفُ في ذلك سماعًا؛ فإن يكنْ فهو قليلٌ. وإن احتججتَ بعلةِ عدمِ الفرقِ؛ وذلك أن تزعمَ أن العلةَ المجيزةَ لقياسِ المبنيّ للمعلومِ ينبغي أن تجيزَ القياسَ في المبنيّ للمجهولِ، وإن لم يوجدْ سماعٌ؛ إذْ لا فرقَ بينَهما، كما أجازَ ابنُ السرّاجِ القياسَ على إلغاءِ " ما " المتصلةِ بـ " إنّ " وأخواتِها حملاً لها على إلغاءِ " ليتَ " إذا اتصلت بها، كما روى سيبويهِ بيتَ النابغةِ:
قالت: ألا ليتما هذا الحمامَ لنا ... إلى حمامتِنا، أو نصفَه، فقدِ
وإنما أجازَ ذلك من طريقِ ادّعاءِ عدمِ الفرقِ.
قلنا: كلا؛ فإن بينَ المبني للمعلومِ، والمبني للمجهولِ فرقًا؛ وذلكَ أنّ إجراءَ أحدِهما مُجرى الآخرِ مدعاةٌ إلى اللبسِ. والعربُ يعتدّونَ كثيرًا بهذه العلةِ، ويَبنونَ قوانينَهم عليها، كما فعلوا في الإعرابِ، وفي الزياداتِ التصريفيةِ الدالّةِ على معنًى، وفي غيرِ ذلكَ. وربّما لم يعتدّوا بها، كما فعلوا في " مختار " اسمَ فاعلٍ، واسمَ مفعولٍ. فإنْ بلغنا عنهم سماعٌ، لم يكن لنا أن نجاوزَه إلى غيرِه؛ قالَ الإمامُ سيبويهِ رحمه الله تعالى: (فاستعملْ من هذا ما استعملتْه العربُ، وأجزْ ما أجازوا) [الكتاب 1/ 414]. ولذلك أنكروا على ابنِ مالكٍ أنّه فرقَ بين (بِعت) مبنيًّا للفاعلِ، والمفعولِ، معَ أنَّه كما نقلَ المازنيُّ لغةٌ لبعضِ العربِ فقطْ. وعلى كلِّ حالٍ فما تقدَّم يكشِفُ لنا التفاتَ العربِ إلى هذه العلةِ، واعتدادَهم بها كثيرًا. وإذا كانَ اللبسُ ثابتًا في أصلِ المسألةِ التي نحنُ بسبيلِها كانَ هذا موجِبًا للفرقِ؛ وإذا ثبتَ الفرقُ امتنعَ القياسُ. فإن قالَ قائلٌ: ما لكَ حملتَ المسألةَ على مذهبِ العربِ في اجتنابِ اللبسِ، ولم تحملها على مذهبِهم الآخرِ في عدمِ الاعتدادِ بهِ، كما في " مختار "؟ قلتُ: لأنَّ الاحتجاجَ بـ " عدمِ الفرقِ " احتجاجٌ ظنّيّ؛ فأدنى احتمالٍ ينقضُه، كالاحتجاجِ باستصحابِ الأصلِ؛ وقد وُجدَ احتمالُ مراعاةِ اللبسِ. ثمَّ إنّا وجدنا العربَ يعتدّونَ بها في نحوٍ من مسألتِنا؛ وذلك في مسألتينِ يجمعُها ومسألتَنا أصلٌ واحدٌ؛ هو الفرقُ بينَ المبنيّ للفاعلِ، والمبنيِّ للمفعولِ؛ فالمسألةُ الأولى في أفعلِ التعجبِ، والثانيةُ في اسمِ التفضيلِ؛ فإنهم منعوا بناءَهما من المبنيِّ للمفعولِ، لئلا يلتبسا بالمبنيّ للفاعلِ؛ فلا تقولُ مثلاً: محمدٌ أضربُ من زيدٍ. تريدُ أنه يُضرَبُ أكثرَ من زيدٍ. وبذلك يتبيّنُ أنّ بينَهما فرقًا؛ فلم يبقَ لهم إلا السّماعُ؛ ولا سَماعَ يسوّغُ القياسَ.
وإنْ أريدَ بـ " طبعًا " في مثالِ هذه المسألةِ أنهم كرماءُ عن طبعٍ، لا عن تصنّعٍ، فهذا أصلاً ليسَ موضعَ خلافٍ؛ إذْ يكونُ حينئذٍ تمييزًا. معَ أنه ينبغي العلمُ أني لا أنفي " طبعًا " من العربيةِ؛ ولكني أنفي استعمالَها حيثُ لا يسنِدها القياسُ.
أبو قصي
ـ[حمد القحيصان]ــــــــ[10 - 05 - 08, 07:37 م]ـ
ماشاءَالله!
زِدْ أبا قُصيٍّ لاعَدِمناكَ ..
ـ[أبو قصي]ــــــــ[13 - 05 - 08, 11:01 م]ـ
أخي الدكتور / مروان
ومرورُك من ههنا أسعدني.
لك الشكرانُ مني والثناءُ!
أبو قصي
ـ[أبو قصي]ــــــــ[13 - 05 - 08, 11:05 م]ـ
أخي الدكتور / ريان
حياك الله!
الغالبُ على المجامع اللغويةِ أنها تحملُ العربيةَ ما لا تحتملُ، وتكرهها على ما لا ترضى، وتكلفُها شططًا في تصحيحِ كلامِ العامة. وهذا بيّنٌ، وأمثلتُه كثيرةٌ. فهذا ما أنقِم عليها؛ فقد كنتُ أحبُّ أن ينظروا في مسائلِ العربيةِ بمعزلٍ عن قصدِ التيسيرِ، أو رفعِ الحرجِ.
أبو قصي
ـ[منى كعكة]ــــــــ[13 - 05 - 08, 11:22 م]ـ
أشكرك جزيل الشكر , ولكن هل هناك كتاب نستطيع العودة إليه لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة , أرجو إسعافنا به في حال وجوده
ـ[الاحسائي]ــــــــ[14 - 05 - 08, 12:28 ص]ـ
أبو قصي ..
لا زلت مبادعا , فبارك الله في علمك وعمرك ,وننتظرك من باقي الموضع الأخر , سهل الله أمرك ...
ـ[أبو قصي]ــــــــ[19 - 05 - 08, 03:25 م]ـ
إخواني الفضلاءَ، ابنَ نُباتةَ، وحمد القحيصان، ومنى كعكة، والأحسائي،
لكم الشكرُ الوافرُ.
---
أختي / منى،
كُتُبُ الأخطاءِ الشائعةِ كثيرةٌ جدًّا؛ ولكني لا أرضَى منها واحدًا.
أبو قصي
¥