تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[10 - 11 - 07, 05:39 م]ـ

اللمعة 18:

يقسم البيانيون التشبيه إلى أقسام مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات، ونريد هنا أن نتعرض لتقسيمهم له باعتبار طرفيه متخذين هذا التقسيم ذريعة للبحث في طبيعة الصورة البلاغية خاصة، وأسلوب الأدب في استعمال اللغة على وجه العموم:

كان من المفروض أن تكون الأنواع خمسا وعشرين (دون اعتبار وجه الشبه) لأن طرفي التشبيه ملحوظان من حيث المأخذ والإدراك، والملكات النفسية المدركة خمس:

1 - الحس (الحواس الخمس الظاهرة)

2 - العقل.

3 - الخيال.

4 - الوهم.

5 - الوجدان.

وبناء على هذا يكون المشبه:

- حسيا مثل: برتقالة، حفيف، مالح، لزج، ناعم الخ ..

- عقليا مثل: سعادة،حرية، فناء، بدايةالخ ..

- خياليا مثل: بحر من الحبر، جبل فضة، أشجار زبرجد الخ

- وهميا مثل: العنقاء، رأس الغول، أنياب الشيطان الخ ..

- وجدانيا مثل: فرح، ألم، جوع،عطش الخ ..

والمشبه به كذلك .. فاحتمالات التركيب خمس وعشرون.

لكنهم، زيادة في الضبط وتقليلا للاعتبار، أرجعوا كل الأقسام إلى القسمين الأولين فقط فألحقوا الخيالي بالحسي، وضموا الوهمي والوجداني إلى العقلي فانحصرت الأنواع في أربعة فقط: تشبيه حسي بحسي، وتشبيه عقلي بعقلي، وتشبيه عقلي بحسي،وتشبيه حسي بعقلي.

وقبل انتقاد هذا التقسيم، تجدر الإشارة إلى الفرق بين الخيالي والوهمي معتمدين على ضابطي المادة والوجود:

فإن كانت مادة الشيء وأجزاؤه موجودة في عالم الحس والتركيبة منعدمة فيه، فالشيء خيالي نحو:بحر من الزئبق ... فالبحر والزئبق منفصلين موجودان حسا لكن التركيبة لا توجد إلا في الخيال.

أما إذا كانت المادة نفسها غير موجودة حسا وقام الخيال بخلقها وتشكيلها فالشيء وهمي.

فإن قلت فما الفرق في هذه الحالة بين الوهمي والعقلي وقد عرفوا الثاني "بما لا يكون هو ولا مادته مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة"؟ قلنا: نعم، اشتركا في كونهما غير منتزعين عن الحس لكن الوهمي لو إدرك لكان مدركا بالحس وبهذا القيد حصل التميز. فالعنقاء مثلا لم تنشأ في الذهن عن الحس لكن لو قدر للعنقاء أن توجد لما أدركناها إلا بالحس.

هذا الجمع والتقسيم يحتاج إلى نظر، ولن يكون منطلقنا هو فلسفة النفس ونظرية المعرفة التي وجهت تقسيم البيانيين ولكن منطلقنا هو تجربة التلقي المباشرة وارتسام الصورة البيانية في الوعي:

نميز أولا بين الفكرة والصورة، أو بين التقرير والتصوير:

الفكرة هي تركيبة عقلية، تفهم ولا تتصور، ينتجها العقل، وتتجه نحو العقل، ولا يستطيع الخيال أن يتمثلها بسبب طبيعتها التجريدية ..

أما الصورة فهي تركيبة حسية ينتجها الخيال وتستثير خيال المتلقي ومنها يجرد العقل فكرتها ..

فلو قلت:

"الحرية نفي لمبدأ الحتمية"

لكانت فكرة تجريدية، عقلية، مفهومة .. لكنك لو حاولت أن تغمض عينيك وتتخيل هذه الجملة أو عناصرها لما استطعت أبدا لأن الخيال لا يتصور إلا ماهو حسي أما كلمات "نفي"،"مبدأ"،"حتمية"، فهي موغلة في التجريد لا يعرفها إلا العقل.

لكنك لو قلت:

"العصفور ينسل من القفص ويحلق عاليا في السماء الزقاء"

فإنك لن تجد صعوبة في تخيل المشهد وتتبع تفاصيله وأنت مغمض العينين:

تتخيل عصفورا وقد تضيف من عندك لونا وصوتا وحركة ووتتصور باب القفص يفتح والعصفور يخرج منه وتتخيل رفرفته وهو يعلو إلى الفضاء المفتوح الأزرق ..

هذا هو التصوير وهذه هي الصورة البلاغية ..

فقارن بين الأمرين:

"الحرية "وهي فكرة يفهمها العقل، ويقررها للمخاطب.

"الحرية" وهي مفردات حسية يتمثلها الخيال، ويصورها للمخاطب.

وليست البلاغة إلا تلك الآليات التي تحول الأفكار إلى صور .... ومن هنا تنشأ خصوصية الخطاب الأدبي، ويتجلى تميزه عن الخطابات الأخرى فالعلم والفلسفة والنقد الأدبي وغيرها .. تقرر الأفكار والنظريات أما الأدب فيصورها في تشبيهات قصيدة أو أحداث قصة ... فظهر بالتالي انتماء الأدب إلى عائلة الفن الجميل كالرسم والتصوير والنحت ... التي تتفق في الطبيعة وتختلف في الوسائل .. فالرسم مثلا تصوير بالألوان والأدب تصوير بالكلمات ..

ويمكن للرسام أن يصور لوحة مستوحاة من عبارة "العصفور ينسل من القفص ويحلق عاليا في السماء الزقاء" لكنه يستحيل عليه أن يرسمها مباشرة من عبارة"الحرية نفي لمبدأ الحتمية" عليه أولا أن يحولها إلى صورة .. وهذا هو القاسم المشترك بين الرسام والشاعر.

إذا تقرر هذا أدركنا أهمية الخيال في الصورة سواء عند الشاعر أو عند السامع وجاز لنا ان نعتبره هو المعيار أو الضابط في التقسيم:

فكل ما يمكن تخيله فهو من القسم الحسي ولا فرق بين الوهمي أو الخيالي ..

وما لا يمكن تخيله فهو عقلي تجريدي ..

فنحصل على التقسيم الثنائي التقليدي لكن بعد تنقيحه باستلال الوهمي من العقلي وإلحاقه بالحسي، فلا نأبه لوجود أو لعدم، وإنما الشأن في اعتبار الوقوع تحت سلطان الخيال أو الانفلات منه. فالخيال الذي يركب الصورة الخيالية، هو نفسه الذي ينشيء الصورة الوهمية. الفرق هو أن الخيال مقيد نسبيا بالموجود الحسي في التخيل وهو أكثر حرية في التوهم لأنه ينشيء موضوعه إنشاء ...

ولا نرى حرجا من قسمة ثلاثية ممكنة: حسي/خيالي/عقلي .. على أن يكون الخيالي متضمنا للوهمي ويكون الخيال فاعلا للتركيب والإنشاء ويكون الحسي ما يأتي من القنوات الحسية الخمس والعقلي ما يقوم العقل بتجريده ...

لكن الأهم هو اعتبار مركزية الخيال في نظام التلقي خاصة:

فالمتلقي يستقبل الصورة البلاغية –تشبيه مثلا-فيتمثلها بخياله ثم تشع الصورة الخيالية في اتجاهين:

-في اتجاه العقل (الفهم) فيجرد من الصورة الفكرة.

-في اتجاه الوجدان (الشعور) فيحس بما توحي به الصورة من خوف أو ضيق أو بهجة ..

وهكذا يقوم المتلقي أمام الصورة البلاغية بثلاثة أفعال:

-يتصور.

-يفهم.

-يتأثر.

وعندما قلنا "يقوم الملتقي "لا نعني أن هذه الأفعال تحدث بإرادة الإنسان وفق ترتيب ما بل كل ذلك يحدث كاستجابة تلقائية لإثارة الصورة.

فمن الدلالة الحرفية تتولد الصورة بعمل الخيال،

ومن التأويل تتولد الفكرة بعمل العقل،

ومن الدلالة الإيحائية ينشأ الإحساس بعمل القلب.

هذا، ونعدك بتطبيق هذه المنهجية على صورة قرآنية في اللمعة القادمة بحول الله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير