في التشبيه يجب أن يكون وجه الشبه في المشبه به أقوى وأظهر،هذا ما يتفق مع مقصد البيان لأن هذا البيان ليس شيئا آخر غير الإظهار والإيضاح ... فأنت لو شبهت لصاحبك شيئا بشيء فهذا يفترض الشرطين التداوليين الآتيين:
-أن صاحبك لا يعرف شيئا عن الأمر الأول- أو يجهل منه الوجه المراد على الأقل-
-أنه يعرف عن كثب الأمر الثاني-أو لا يجهل منه الوجه المراد على الاقل-
فتريد بآلية التشبيه البيانية أن تستغل معرفته تلك لتقرب إليه ما خفي عنه من الأمر الأول .. واضح أن هذه العملية لا تؤتي أكلها إلا إذا كان المشبه به أعم من المشبه ومتضمنا له كما أو كيفا ... كما في الجمل الحدية حيث يشترط للخبر أن يكون أعم من المبتدأ فيقبل منك قولك:"الانسان حيوان" ولكن قولك الآخر:"الحيوان إنسان" مردود عليك بدون تردد.! خاصة وأن التشبيه في صورته البليغة يكون شبيها بالقضية الحملية.
لو شبهت الشمعة بالمصباح لاستقام لك التشبيه لأنه على تقدير أن المتلقي يعرف قوة ضوء المصباح فسوف يقوم بنقل الصفة إلى الشمعة فيتصورها مشعة مثله أو أقل قليلا،فتحصل له معرفة الشمعة ولو من وجه .. والأمر هنا قريب من قاعدة "أقل ما قيل" عند الأصوليين: فمن علم ضوء المصباح كانت له فكرة عن ضوء الشمعة،لكن لو شبهت المصباح بالشمعة لفات الغرض ولربما حصل عكس المقصود فتتوهم المصباح -الذي لا تعرفه -مشعا على نحو ما ترى الإشعاع في الشمعة فلا ينطبق عليك أنك عرفت المصباح .. ولن تستطيع أن تتصور ضوء المصباح أقوى من ضوء الشمعة لأن هذه كيفية مجهولة لديك ولا تستطيع أن تستفيدها من الشمعة ففاقد الشيء لا يعطيه .. فما فائدة التشبيه!
لا يقال إن:" المصباح كالشمعة "مفيد فائدة معتبرة وهي تحقير المصباح فلم أنكرتم فائدة مثل هذا التشبيه!
لأنا نقول أنكرنا هنا فائدة التشبيه من حيث أنه تشبيه أي بيان لمقدار الصفة وليس مطلق الفائدة ألا ترى أنك لا تفهم التحقير من المثال المذكور إلا وأنت تعلم سلفا ما المصباح وما ضوؤه .. فلعل التعبير أدخل في سلك الكناية بعدما فات مقصود التشبيه.
2 -
حامت ظلال الشك على بيانية تشبيه الحسي بالعقلي منذ زمن بعيد، ونريد أن نضيف إليه التشبيه المقلوب وإن كانت بعض صور هذا التشبيه ليست من قبيل تشبيه الحسي بالعقلي -كأن يكون طرفاه حسيين -فبينهما عموم وخصوص وجهي ..
إلا أن الجامع لكل الصور هو مبدأ"تشبيه الأظهر بالأخفى".
.... وهو غير مستساغ.
قال في المطول:
(وقيل:إن تشبيه المحسوس بالعقل غير جائز، لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها، ولذلك قيل:من فقد حسا فقد فقد علما، يعني العلم المستفاد من ذلك الحس، وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا، والأصل فرعا وهو غير جائز، فلذلك لو حاول محاولة المبالغة في وصف الشمس بالظهور فقال: الشمس كالحجة في الظهور .. كان سخيفا من القول .. وأما ما جاء في الأشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدر المعقول محسوسا ويجعل كالأصل لذلك المحسوس على طريق المبالغة فيصح التشبيه حينئذ).
تعليق:
-قولهم" غير جائز"فيه إقحام للمنطق في غير محله، فمسائل الفن والجمال مستقلة عن أحكام العقل ومقاييسه .. فالصورة البلاغية تصنف وفق أحكام الذوق والشعور، فيحكم عليها بموقعها على سلم يمتد من العي إلى البيان، و من القبح إلى الجمال، وأما الحكم عليها بالجواز أو عدم الجواز فهذا يعني أنها قد اعتبرت قضية عقلية يكون الرأي فيها للمنطقي وليس للبلاغي ...
و شكوى الشاعر البحتري وتذمره من الأحكام العقلية مشهورة:
كلفتمونا حدود منطقكم
... والشعر يغني عن صدقه كذبه
-نعم إن تشبيه المحسوس بالمعقول غير مقبول، لكن التعليل الفلسفي الذي تمسكوا به متهافت من وجهة نظر بلاغية .. وذكر الفرع والأصل ووجوب ترتيب أحدهما على الثاني أحكام شكلية جاهزة لا تأثير لها في تلقي الصورة البلاغية ..
فقولهم:
"الشمس كالحجة"
سخيف حقا كما قالوا، لكن لا أظن أن للأصلية والفرعية،ببعديهماالوجودي والمعرفي،مدخل في السخافة .. بل الأمر أسهل من هذا بكثير وهو خروج البيان عن جنسه فالشمس الظاهرة أقرب إلى الناس وجودا وإدراكا من معنى"الحجة" فلم يزد التشبيه للشمس بيانا، فثبت العبث المحض الذي يتنزه عنه والبلغاء والعقلاء.
-وقولهم:
وأما ما جاء في الأشعار من تشبيه المحسوس بالمعقول فوجهه أن يقدر المعقول محسوسا ويجعل كالأصل لذلك المحسوس على طريق المبالغة فيصح التشبيه حينئذ.
قلت:
هذا توجيه شديد التكلف، مديد التعسف .. حاصله التشديد على المتلقي وتكليفه الأمور الذهنية الجسام في سلسلة من التقديرات والادعاءات .. بلاطائل بيانية في نهاية المطاف .. إ
والشعر لمح تكفي إشارته
... وليس بالهذر طولت خطبه
وأما إن كانت تلك التقديرات والادعاءات من جانب المتكلم فهي قائمة ببطنه فقط، لا وجود لها في ثنايا الخطاب، معدومة عند المتلقي ولا سبيل له إليها.
والأولى من كل هذا أن نبحث عن نكتة غير البيان في مثل هذا التشبيه نحو الظرافة أو الفكاهة ... لا سيما وأن هذا النوع من التشبيه نادر في كلام البلغاء المتقدمين،لم يرفع رأسا إلا عند المتكلفين من أصحاب مدرسة البديع والصنعة وشاع في نظم الفقهاء وأهل الصناعات .. الذين كانوا يجدون متعة في إدخال مصطلحات ونظريات صناعاتهم في الغزل وغيره ...
¥