لو قلنا بالوجهِ الأولِ؛ فسلمنا أن الياءَ أفادت المبالغةِ في ما اتصلت به من الكلمِ المشقِّ المسموعِ، فإن هذه العلةَ علةٌ استئناسيةٌ؛ والعلةُ الاستئناسيةُ – كما بينتُها في كتابٍ لي في أصولِ النحو وعللِه – هي ما يعتدُّ بها العربيّ في موضعٍ، ولا يعتدُّ بها في مثلِ ذلك الموضعِ مع عُروضها له. كما فعلوا في جموعِ التكسيرِ؛ فجعلوا لبعضِ الأسماء جموعَ قلةٍ، ولأخرى جموعَ كثرةٍ، ومنها ما جعلوا له جموعَ قلةٍ وجموعَ كثرةٍ. وهذه العلةُ لا يقاسُ عليها؛ إذ لو كانت علةً محكَمةً راسخةً لقاسوها هم؛ فلمَّا استغنوا عنها، ولم يأخذوا بقياسِها، كانَ علينا أن نتبعَهم في ذلكَ، لأنَّ اللغةَ ليست كلُّها سماعًا. وقد أخطأ مَن زعمَ ذلك. وإذا نحنُ نظرنا في مسئلة (أحمر) و (أحمريّ) وجدنا أنَّ ما وردَ من بابِها قليلٌ، وأكثرُه قابلٌ للتأويلِ؛ فلو سلمنا أنه وردَ منه ثلاثونَ كلمةً غير مُئولةٍ – وليس كذلك -، فأينَ هذا في جنبِ مشتقاتِ العربيةِ التي لا يكادُ يحصيها عدٌّ.
هذا لو سلمنا أنَّ دخولَ الياء على (أحمريّ) أفادَ المبالغةِ؛ فكيفَ وهو غيرُ مسلِّم به – كما قدمنا -.
وإذا تبيَّن هذا لم يجُز لنا قياس (رئيسي) على (أحمري) ونحوِه بمقتَضَى هذا الوجهِ. وبمنعِ القياسِ قالَ ابنُ عقيلٍ وغيرُه.
أما الوجه الثاني فمردودٌ.
وأما الوجه الثالث، فذكرنا أنه من قبيلِ التوهُّم والغلطِ. وهو داخلٌ في العللِ القاصِرةِ التي لا تتعدى موضعَها الذي سُمِعت فيه.
وأما الوجه الرابع، فإنه ليسَ له علةٌ ثانيةٌ، إلا الوضعَ؛ وهو في الحقيقةِ ليسَ بعلةٍ؛ وإنما هو توقُّفٌ في بيانِها، لأنَّ السؤالَ عنها يستلزمُ التسلسلَ؛ وهو من المستحيلاتِ العقليةِ. ولهذا قالَ أبو حيانَ: (إن التعرضِ لـ ... وأشباهِ ذلك من تعليلِ الوضعياتِ، والسؤال عن مبادئ اللغات ممنوعٌ، لأنه يؤدي إلى تسلسلِ السؤالِ ... ) (4).
فكلُّ ما كانت علتُه الثانيةُ الوضعَ لم يجُز القياسَ عليه، لأن الوضعَ ليس موكولاً لأحدٍ غيرِ العرب.
وبهذا يستبينُ خطأُ قولِ (رئيسيّ) بالياء، وأن الصوابَ (رئيس).
- - -
- الموضع الرابع:
زعمَ صاحبُ (معجمِ الأغلاط اللغوية المعاصِرة) و (معجم الأخطاء الشائعةِ) في الأولِ منهما أنَّ قولَ: (أذَّنَ العصرُ) خطأ، وأن الصوابَ بناؤه للمجهولِ: (أُذِّنَ بالعصرِ). وهو في ذلكَ تبعٌ لابنِ بري.
وهذا القولُ باطلٌ. فإن كانَ تخطِئتُهم ذلك لأن الفعلَ هذا لا يكونُ إلا مبنيٍّا للمجهولِ فمردودٌ عليهم بكثيرٍ من الشواهدِ، منها قوله تعالى: {فأذَّنَ مؤذّنٌ بينَهم} [الأعراف: 44]، وقولِه: {وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ} [الحج: 27]؛ فأسندَ الفعلَ إلى ضميرٍ مستترٍ.
وإن كانَ ذلك لأن الفاعلَ ليسَ (العصرَ) فمردودٌ عليهم بأن ذلك على جهةِ المجازِ العقليِّ، الذي عَلاقته الزمانية، كقوله تعالى: {فكيف تتقونَ إن كفرتم يومًا يجعلُ الولدانَ شيبًا} [المزمل: 17]. والقرينة فيه عقليةٌ، عرفيةٌ؛ فالعقلُ أحالَ صدورَ الفعلِ من (العصرِ)، لأنه جمادٌ، والعُرفُ دلَّ على الفاعلِ الحقيقيّ؛ وهو (الرجلُ الموكَّل بالأذانِ).
- - -
- الموضع الخامس:
يقولون مكانَ (موجودٍ): (متواجِد). وهو خطأ لا يصِح سماعًا، ولا قياسًا؛ فالسماعُ معلومٌ؛ إذ وردَ (تواجدَ) من (الوجْدِ). أما القياسُ فلا يُجيزُ بناءَ (تفاعلَ) من (وُجِدَ)، لأنهم إن كانوا يريدونَ به معنى (التشاركِ) فالردُّ ما ذكرتُه في كتابِ التصريف؛ قلت:
(9 - تفاعلَ
من معانيه:
الأول: المطاوعة لـ (فاعلَ). ويكون في موضعين:
1 - التشارَك. وهو أضربٌ؛ فإن كان الفعل لازمًا فمعناه التشارك فيه؛ نحوُ (تجالسَ الرجلانِ). وإن كانَ متعديًا؛ فإن كانَ لواحدٍ فمعناه أنَّ كلّ واحدٍ منهما أوقعَ الفعلَ على الآخرِ؛ نحو (تضاربَ الرجلانِ) إذا جعلَ كلّ واحد منهما يضرِب الآخرَ. ولا يجوز أن يكونَ المعنى: تشاركا في ضربِ غيرِهما؛ ولذلك من الخطأ أن يُقال: (تواجدَ الرجلانِ) بمعنى: اشتركا في الوجودِ؛ وإنما يكون معناه (وجدَ كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ)) ا. هـ.
وإن كانوا يريدون معنًى آخرَ؛ فليسَ منها ما هو مقيسٌ غير الإيهامِ؛ وهو غيرُ مرادٍ، ولا يصِح لو أُريدَ، لأنه لا يُبنى إلا من اللازمِ، من قِبَلِ أنَّ معناه لا يتعدَّى صاحبَه، و (ووجَد) متعدٍّ. ومتى بطلَ ذلك بطلَ قولُ (تواجدَ)؛ فافهَم هذا واعملْ به.
- - -
وليس هذا الذي ذكرتُ بموجبٍ تبرئةَ نفسي من الخطأ؛ فإني لا أدّعي ذلك لنفسي. وكيفَ يحُلُّ بمنجاةٍ من الخطأ مَن لا يسمع ليلَه ونهارَه إلا كلامًا عاميًّا، أو كالعاميِّ، ومَن إذا قرأ كانَ كثيرٌ مما يقرأ مكتوبًا بلسانِ هذا العصرِ المدخولِ:
فأينَ إلى أينَ النجاء ببغلتي ** أتاك أتاك اللاحقون، احبسِ، احبسِ
وما أحسنَ ما قالَ الجاحظُ في كتابِه الحيوانِ: (فإنْ نَظَرْتَ في هذا الكتاب فانظُرْ فيه نظَرَ مَنْ يلتمس لصاحبه المخارجَ، ولا يَذْهَبُ مذهبَ التعنُّتِ، وَمَذْهَبَ مَنْ إذا رأى خيرًا كتَمَهُ، وإذا رأى شَرًّا أذاعه).
- - -
- الهوامش:
(1): مما لا يدلّ على معالجةٍ (أطلقه فانطلقَ). وبهذا يُردّ على ابن الحاجبِ ومن تبِعه. ولا تكونُ المطاوعة إلا في الحسيّ من قِبَل أنه موضع القَبولِ والامتناعِ.
(2): وبهذا يُردّ على سيبويه رحمه الله في إنكاره قياسَ المطاوعة بـ (انفعلَ) محتجًّا بأنك لا تقولُ: (انطرد)؛ وذلك أن (انطرد) ليس داخلاً في حدّ القياسِ الذي ذكرنا حتى يُحتجَّ به. (الكتاب / 4/ 66).
(3): وهو مما فُقِد من كتبه. والذي ذكرتُ مما نقلَه عنه ابن قتيبة في (عيونِ الأخبارِ).
(4): انظر التذييلَ والتكميلَ / 1/ 139.
أبو قصي
¥