ومثل ابن القيم لذلك بأمثلة كثيرة، فمن ذلك قوله: "فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهادُ، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
وأترككم مع هذه الكلمات لرجل قضى نحبه مهاجرا مجاهدا في تلك البلاد وهو الشيخ عمر يوسف جمعة رحمه الله تعالى:
قال في مذكراته: " وها هنا ملاحظةٌ عجيبة في هذا الجزء الكريم من أرض الإسلام- يعني بلاد العراق-، لقد وجدنا بالاستقراء أن أكثر أمراء المجاميع إنما هُم أئمةٌ وخطباءٌ وطلبةُ علم على منهج السَّلف، اشتغلوا بالتَّدريس وتربية الشَّباب وجمعهم على العقيدة النقيَّة الصافية، فلما وقعت الحاقَّة, وقرعت قارعةُ الاحتلال البلاد, قاموا مع تلامذتهم يتمثَّلون الآياتِ والأحاديثَ التي كانت حديثَ مجالسهم وسميرَهُم في لياليهم.
هذا هو الفرق بين العقل السُّنِّي السَّلفيِّ السُّنَنِيِّ الذي تشكل في ظلالِ القُرآن، وتمَّ تكاملُه في حدائقَ السُّنَّة الغنَّاء، فتعلَّم أساليبَ التغيير، وإدرك سُننَ الله في الآفاق في حركة المجتمعاتِ أفراداً وطوائفَ ودُولاً فمضى يشُقُّ طريقه على نور من الله وبصيرة.
وبين العقول الإسلامية التي نبتتْ ورَعَتْ في أرضٍ فكريَّةٍ غريبةٍ - أو قل هَجينَةٍ - خُلطَ فيه الكلأُ الطيِّبُ مع السُّمِ الزُّعافِ، وبالتالي اختلَّ الميزان وتشوش النَّظر، وانحرفت أدواتُ التغيير، ويمكننا أن نرصدُ هنا اتجاهين فى ميدان الفعلِ والحركَةِ:
الأولُ: العقل الصُّوفيُّ: هذا الذي ألغى المادَّة ونبذ التعامُلَ بالأسباب، وهَام مع التَّرانِيم والتَّوشيحاتِ، وكُلَّما ضاقت بهم الأرضُ أو تزلزلت أقدامُهم أمام زحفِ الكُفرِ الضاغطِ فزعوا إلى قُبور الأولياء ودُعاء الأمواتِ , كما كان يقولُ قائلُهم: " ياخائفين من التَّترِ, لوذُوا بقبرِ أبي عُمَر"!!.
وربما هتفوا مكبِّرين وبكوا داعين الله بالنَّصر والفتك بالأعداء وأن يُهلك الكُفَّار, في مشهدٍ بُكائيٍّ دراميٍّ يُذكِّرُك بمواكب اللَّطمِ!!.
وهو ما نشهدُه هُنا من القلَّة القليلةِ الباقيةِ من مشايخ التَّصوُّف والدروشة؛ فأنت لا تجدُ لهم أثرَ الجهاد، ولا حركةً في الميدان، وغايةُ جهادهم أناشيدُ يذيعونها ودعواتٌ يردِّدُونها، إلا من رحم الله ..
وهذا يُذكِّرُك بما حصل في مصر، حين قدمت جيوش (الافرنسيس) واجتاحوا البلادَ والعبادَ فتكاً وقتلاً، فهرَع شُيوخُ الأزهر لا إلى السِّلاح والكفاحِ, بل إلى «صحيح البُخاريِّ» يقرؤونَه يرجونَ بركته والانتصارَ على جيش الكُفر بتلاوته، وكُلَّما ازدادوا تلاوةً ازداد العدوُّ تغوُّلاً وتوغُّلاً حتى قال لهم الخِديوي: "إما انكم لستم عُلمَاء أو أن هذا ليس «صحيح البُخاريِّ»!! ".
وكلا النتيجتين خطأ، لكن الله الذي أمرنا أن نُعدَّ ما استطعنا من قُوَّة وأن نتبع الأسباب الكونيَّة (فَأتبَعَ سَبَبَاً) لم يجعل تلاوةً «البُخاريِّ» أوقراءة القُرآن أو مجرَّد التكبير سبباً لقهر الأعداء والغلَبِ على الكُفَّار.
إنَّ التكبير النافع هو تكبير المجاهدِ وهو يرمي الأعداء بححيمه، ويذيقهم حر لظىً، فيكون التكبير زلزلةً لهم وزعزعة لأركانهم بإذن الله تعالى، وسيرة النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ملأى بتطبيقه لهذه السُّنن الكونيَّة وأخذه للأسباب الماديَّة، مع التَّوكل على ربِّ البريَّة.
عمودُ الدِّين لن يقوى
بتكبيرٍ وتهليلِ
ولن يحدُو بنا أمل
بدعوى القال والقيلِ
فغيرُ السيف لا يُجدي
يميناً فتيةَ الجيلِ
الاتجاه الثاني: -وهو الاتجاه الغالب والمسيطر على ساحة الفعل الإسلاميِّ-: وهو الاتجاه الذي أدرك أهميَّة الأسبابِ وضرورة التَّعامُل مع السُّنن، ولكنَّه انحرف بعيداً عن الهديِ الآلهيِّ، واستبدل بالهديِ النبوِيِّ الهديَّ الغربيَّ والنموذجَ الأوربيَّ في الفعل والتَّغييرِ، فاتخذ المظاهراتِ مطيَّةً والاعتصاماتِ جُنَّةً، وعرائض الالتماسِ والاستجداءِ وسيلةً، ويعجب المؤمنُ المراقبُ وهو يراهم وهم يعبِّؤون الأمَّة لـ «جهاد المهرجاناتِ»، ويفرغون حماس الشعوب في «مسيرات سلمية»، تبح فيها الأصواتُ وتشقُّ الحلوق بالهتافات, ثم ينفضّ السامر, وينتهي الحفل وتعود كتائب المجاهدين البواسلُ إلى قواعدها آمنةً بعد أن أصمَّت آذان عدوِّها بالشتم والتَّقبيح، ومزَّقت جيشَهُ بدوس الأعلامِ وحرق الدُمى!!.وغير بعيد منا ما دعت اليه هيئة علماء المسلمين في العراق من مظاهرات سلمية ومناشدات لـ (أحرار العالم!) لفك الحصار ودفع البلاء عن أهل الفلوجة ويعجبُ المؤمنُ مرة أخرى ويتساءلُ وهو يضربُ كفَّاً بكفٍّ: ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالى: (ياأيُّها النبَِّيُّ حَرِّضِ المؤمنينَ على القِتَالِ)؟!
أولم يعلم هؤلاءِ أنَّ الله سُبحانه قال: (وأعدُّوا لهُم ما استطعتُم) ثُمَّ يكون بعد ذلك التَّوكل؟! وهل بقي لهؤلاء من عذر وهم يرون أفراداً قلائل وأعداداً يسيرة من المجاهدين وقد مرَّغُوا أنف أمريكا بالتُّرابِ وألصقُوه بالرُّغام؟!
فهذه مسارات المجتمع، ليهلِكَ من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنَة (والحمد لله رب العالمين).
إنَّ هُناك فرقاً كبيراً بين إدراك المُفردَاتِ وحفظ المُتونِ وسردِ المسائلِ، وبين صِناعةِ العقلِ؛ فالعقلُ هو الآلةُ التي تدخلُ فيها هذه المُفردات لينتج لنَا مخرجاتٍ تتشكلُّ بحسب هذه العقلِ.
إنَّ هُناك فرقاً كبيراً بين من يُسلِّم عقله للقُرآنِ والسُّنَّة يصنعانه صناعةً ربانيةً، فإذا أدخلت إليه المُفردات أنتج لنا مُخرجاتٍ ربانية ومنهاجاً حركياً قُرآنياً, وبين من يردُ حوض القُرآن والسُّنَّة بعقل قد تشكل على موائدَ ونفاضات مزاود البشرِ المتهوِّكين، أنَّ الخلل هو في النِّظام المعرفيِّ، والمنهجيَّة العقليَّة، بين السلفيِّ والبدعيِّ، ولذلك فهما على طرفي نقيض, وشتان بين مشرقٍ ومغربٍ".اهـ كلامه بلفظه.
¥