و لعله استعاض عن شطر لا ندري ما هو بشطر قصد به الفرزدق ارتجالا عندما رآه يستر عنفقته
عند ذلك نكس الفرزدق رأسه و التفت إلى راويته يقول:
اللهم أخزه، و الله لقد علمت حين بدأ صدر البيت أنه لا يقول غير هذا، و لكني طمعت في غفلته فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئاً، فأنا الجاني على نفسي الساعة إذ نبهته إلى ما لعله كان غافلا عنه. ألم أقل لك أن شيطاننا واحد؟
ثم صمت و ظل صامتاً حتى إذا انتهى جرير من إنشاد القصيدة ذهب لا يلوي على شئ. أما راعي الإبل فقد غض طرفه – كما شاء جرير – و صبر و ابنه على ما يسمعان، حتى إذا فرغ جرير ذهب الراعي إلى قومه يقول:
- ركابكم ركابكم، فليس لكم هاهنا مقام، فضحكم والله جرير
فلم يرَ الناظر ساعتئذ إلا وجوهاً ممتقعة الألوان، و لم يسمع إلا ضوضاء الرحيل، و قالوا له: هذا شؤمك و شؤم ابنك علينا
فقال: كلا يا قوم لست شؤماً عليكم و ليس ابني كذلك، و إنما جرير شؤم على الناس أجمعين.
و قال بعضهم لأبي جندل: ما الذي دعاك إلى التعرض له و للفرزدق؟ ألا تعلم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة – جريراً و الفرزدق و الأخطل – في حرب عوان، و أنه لم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح كما افتضحنا، و سقط بين أرجلهم و بقوا يتصاولون؟
قال: خلوا سبيلي يا قوم، إنه القضاء، و لا يغني حذر من قدر
و مازال شعراء نمير يحجمون عن الرد على جرير خشية الفضيحة مرة ثانية، حتى تجشم بعضهم الرد عليه كي لا يقال فيهم أكثر مما قيل، و لكن تلك الأشعار لم تنفع نميراً و لا أضرَّت بجرير.
...
أدالتهذه القصيدة من عز بني نمير بن عامر بن صعصعة، و غدا كل منهم ينتسب (عامرياً) بعد أن كان إذا سئل: ممن الرجل؟ قال: (من نمير .... كما ترى) و فخم لفظه و مد به صوته.
أما أبو جندل فكان عندهم رمز الشؤم هو و ابنه، و أما جرير فكان عندهم ملتقى السباب و الشتائم إلى يوم الدين.
و كابد بنو نمير أشد ما يكابد ذليل بعد عز، فقد قيل إن مولى لباهلة – و كانت باهلة موسومة عند العرب بالضعة – كان يرد سوق البصرة ممتاراً. و كان بعض بني نمير يصيح به (يا جواذب باهلة!) فيكابد من ذلك ألماً جسيما، فلما ضجر منهم قص الخبر على مواليه فقالوا له: إذا نبزوك فقل لهم: فغض الطرف ..... (البيت)
و مر بهم ذات يوم فنبزوه، فأراد البيت فاستعصى عليه و خانته الذاكرة، فقال لنابزه: غمض و إلا جاءك ما تكره
فعضوا أصابعهم ندماً و كفوا عنه، و لم يتعرضوا له بعدها
و حكي أن امرأة مرت ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها و قال قائل: انها رشحاء
فقالت: قبحكم الله يا بني نمير، ما قبلتم قول الله عز و جل (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) و لا قول الشاعر: فغض الطرف ... (البيت)
فتشاغلوا بأنفسهم عنها و لم يعودوا لمثلها
...
و مازال الدهر من منشدي تلك القصيدة (الدمَّاغة) و نفس جرير الجبارة لا يساورها الندم على ما في القصيدة من تحامل و قسوة، إلى أن وقع لجرير ما غير رأيه فيها
قال جرير:
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام، فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم، و نظرت إليه من بعيد بين القصور مشيداً حسنا، و سألت عن صاحبه فقيل لي: هو رجل من بني نمير.
فقلت: هذا شامي و أنا بدوي و لعله لا يعرفني، فجئت فاستضفت، فلما أذن لي و دخلت عرفني، فقراني أحسن القِرى ليلتين. فلما أصبحت جلست، فدعا ببنية له فضمها له و ترشفها، فإذا هي أحسن الناس وجها، و لها نشر لم أشم أطيب منه. فنظرت إلى عينيها فقلت: تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الطفلة و لا من حَوَرِها قط، و عوذتها. فقال لي: يا أبا حَزرة أسوداء المحاجر هي؟ فذهبت أصف طيب رائحتها، فقال: أمن وبر هي؟
فقلت: يرحمك الله،إن الشاعر ليقول، و والله لقد ساءني ما قلته و لكن صاحبكم – يريد الراعي – بدأني فانتصرت عليه. (و ذهبت أعتذر)
فقال: دع ذا عنك، أبا حزرة، فوالله ما لك عندي إلا ما تحب
قال جرير: و أحسن والله إلى و زودني و كساني، فانصرفت و أنا أندم الناس على ما سلف مني لقومه
جميل سلطان
نقلاً عن الحديقة لمحب الدين الخطيب ج9 ص66
ـ[الكهلاني]ــــــــ[23 - 12 - 08, 05:02 م]ـ
جزاك الله خيرا على هذه القصة الممتعة التي لا نكاد نرى أمثالها في هذا المنتدى الطيب. وإذا نظرت في المواضيع الكثيرة لم تكد تجد بيتا لشاعر جاهلي أو أموي مع أنهم أهل الشعر واللغة.
ولكني أرى لك أن تنقل عن كتب القدماء التي أخذ منها المؤلفون المعاصرون, فتلك أوثق من هذه وأجمل منها عبارة وأشرف لفظا.
و لألحقنبني نمير بجمرتي العرب الخامدتين (هامش: جمرات العرب الثلاث: (بنو الحارث بن كعب) و قد خمدت بمحالفتها مذحج، و (بنو ضبة بن أد) و قد خمدت بمحالفتها الرباب، و (بنو نمير) و قد خمدت بعد هذه الليلة بقصيدة جرير).
جمرات العرب مختلف فيها اختلافا فاحشا. فمنهم من جعلها أربعا ومنهم من جعلها ثلاثا كما ذكرت. ومنهم من عد فيهم بني نمير ومنهم من لم يعدهم. ومن القبائل التي عدها بعض العلماء في هذه الجمرات عبس وذبيان وتميم.
والله أعلم.
¥